المشروع الكبير
في إطار جهودها المكثفة لحل أزمة المياه، قدرت وزارة المياه تكاليف مشروع الناقل الوطني بمبلغ 2,2 مليار دينار او ما يعادل 3 مليارات دولار. وهو مبلغ ضخم بكل المقاييس، إذا أخذنا موازنة الحكومة الأردنية، وحجم المديونية، ومتطلبات التمويل من وقت وجهد والتزامات. وسوف يستغرق التنفيذ حوالي 6 سنوات وينتج المشروع من 300 الى 350 مليون متر مكعب (م.م.م) سنوياً وسيكفي احتياجات الأردن المائية حتى العام 2040 حسب تقديرات الوزارة. وسيتم تنفيذه غالباً على مبدأ البناء والتشغيل والنقل BOT، ومن المتوقع ان يكون للشركات المنتسبة للدول المانحة الحظ الأوفر في تنفيذ المشروع.
المتناقضات
في عين الوقت الذي تسير فيه الحكومة نحو تنفيذ مشروع الناقل الوطني، تم توقيع وثيقة إعلان النوايا مع اسرائيل بتوجيهات اميركية مباشرة. ومن المتوقع ان تسير الامور مع اسرائيل بسرعة كبيرة لتوقيع الاتفاقية التعاقدية. إن اسرائيل وقد بدأت في محطات التحلية العام 1997 لديها 6 محطات لتحلية المياه على البحر المتوسط تنتج أكثر من 570 م.م.م سنوياً، في حين ان الأردن لديه استطاعة كهربائية زائدة وبعد بناء المحطة الشمسية المقترحة في رسالة النوايا يستطيع تزويد اسرائيل بـ600 ميغاواط، لا تحتاجها إطلاقا، مقابل 200م م م من الماء سنوياً يحتاجها الأردن. المشكلة غياب التوازن في الأرقام وفي الضرورة. فكمية المياه القادمة من اسرائيل ستكون 20 % من مجمل المياه في الأردن، بينما الكهرباء المزودة لإسرائيل لن تتجاوز 2 % من استطاعة التوليد الكهربائي هناك. مما يعنى ان التوازن مفقود، وإيقاف الكهرباء من جانب الأردن لأي سبب لن يعني شيئاً لإسرائيل، ولكن إيقاف الماء من جانب اسرائيل سيخلق أزمة ونقصا هائلاً في المياه في الأردن يستحيل التعامل معه.
من جانب آخر فإن الذهاب الى المشاريع الضخمة التي تكفي احتياجات المياه حتى العام 2040 في عين الوقت الذي تعاني فيه البلاد من عجز مائي اليوم، هو امر غير منطقي مالياً ولوجستيا وفنياً. لماذا لا نسارع في انشاء مشاريع صغيرة تغطي الحاجة السريعة ويمكن تمويلها محلياً ثم نذهب للمشاريع الكبيرة كما نريد؟ فالجائع الذي يتضور جوعا لا ينتظر وليمة ضخمة يتطلب إعدادها وقتا طويلا، بقدر ما يسعى لقطعة من الخبز تمنعه من الانهيار.
ما الذي يمنع انشاء محطة تحلية باستطاعة 50 م م م سنوياً وبكلفة لا تتجاوز 300 مليون دينار يمكن تمويلها محلياً من خلال شركة وطنية مساهمة عامة تشارك فيها الحكومة ودون الحاجة الى قروض ومنح وهبات. وبعد سنتين تبدأ محطة ثانية، وهكذا.
وعلى غرار المفاعل النووي، وبهدف إقناع الرأي العام، انطلقت البكائيات المائية، وتصاعد تكليف أصحاب الأقلام للكتابة عن ضرورات الاتفاقية، والتصريح بأن البلاد ستموت عطشاً، ولن نجد ماء للزراعة ولا للشرب، واننا افقر دولة في العالم في المياه وأننا.. وأننا… ولا حل للمياه امام الأردن سوى الناقل الوطني والمياه من اسرائيل. فهل هذا صحيح؟ وكلا المشروعين يحتاجان إلى 5 أو 6 سنوات لتشغيله.
بين التلكؤ والاستعجال
هل حصل العجز المائي فجأة بين ليلة وضحاها؟ هل كانت التحولات المناخية سراً لم يعلمه احد؟ وانكشف اليوم بعد زيارة كيري للإمارات؟ هل تراجعت كميات المياه المعطاة للزراعة وبالتالي تأثر الأمن الغذائي مباغتة؟ هل ظهر العجز الغذائي اليوم فقط، و على يد شركة إماراتية؟ ألا تستقيم الزراعة إلا بالمياه الاسرائيلية؟ هل تم استنزاف المياه الجوفية ليلا وبالسر؟ أم أن هذه الظواهر كان الحديث عنها والتنبيه لها يدور في كل عام ومنذ اكثر من 20 سنة؟.
لقد تم طرح مشروع الناقل الوطني العام 2011 فما مبرر التلكؤ والانتظار بل إضاعة الوقت مدة (10) سنوات؟ أي 87600 ساعة ومن المسؤول؟ هذا، في حين انه حين تعلق الامر بإسرائيل، تم توقيع رسالة النوايا خلال 24 ساعة. كم سنة ماطلت اسرائيل في قناة البحر الأحمر- البحر الميت؟ وكانت تخدع وتسوف وتؤجل لأنها تريد مشروعاً اسرائيلياً كاملاً وهو قناة البحر المتوسط البحر- الميت طرحته على المجتمع الدولي العام 1982، وتم تنبيه الادارة الى ذلك مرات ومرات.
الأمن بعين واحدة
ويجرى الآن الحديث عن “تنويع مصادر المياه لتعزيز الأمن المائي والذي هو تعزيز لعناصر قوة الدولة”. هل يتحقق الامن المائي وتتعزز عناصر قوة الدولة حين يكون مصدر المياه بيد دولة معادية؟ صحيح انه توجد اتفاقية سلام، ولكن اسرائيل لم تلتزم باتفاقية السلام، وما بعد الاتفاقية من ممارسات لم يجعل من إسرائيل دولة صديقة. هل يمكن تصنيف اسرائيل انها دولة يمكت الاطمئنان لها؟ ان تنويع المصادر في المفاهيم الاستراتيجية لا يتم بعيون مغمضة، ولا يكون مقبولا حين لا يميز من اين يأتي المصدر: المطلوب مصدر آمن يمكن الوثوق به فهل اسرائيل مصدر آمن يمكن الوثوق به ؟ هل هناك توازن بين البائع والمشتري؟ وحرج الماء مقابل حرج الكهرباء؟ كم سنة مضى على قدوم اللاجئين السوريين؟ هل هبط اللاجئون (الذين نحمل لهم كل المودة والتعاطف) بالمظلة اليوم؟ ام مضى على قدومهم 10 سنوات؟ لماذا لم تبدأ مشاريع المياه مع قدوم اللاجئين السوريين؟ لماذا لم يُخصص جزء من المساعدات الدولية القادمة للاجئين لمشروع مياه جديد؟ لماذا لم يطرح الموضوع على مؤتمر لندن؟
التشبيك مع إسرائيل
ترتكز الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية معا على التشبيك الإقتصادي المفصلي بين إسرائيل والجوار العربي. ومع هذا تقوم اسرائيل يومياً بشتى انواع الممارسات الاستعمارية التهويدية البشعة في كل مكان في فلسطين، ولم تظهر أي بوادر لحسن النوايا تجاه فلسطين والأردن منذ توقيع معاهدة السلام العام 1994 وحتى اليوم.
وأصبح اقتحام قطعان المستوطنين للأقصى، الذي هو تحت الوصاية الهاشمية، مسألة يومية اعتيادية. إن الجانب الإستراتيجي الذي يجب أن يكون حاضرا باستمرار هو أن الأردن اكثر المتضررين من التغول الاسرائيلي على فلسطين. وباستثناء الشجب ماذا يمكن ان يفعل الجانب العربي.. فكيف اذا اصبح الماء بيد اسرائيل؟ بعد ان سيطرت على الغاز قبل سنوات؟
هل قدمت اسرائيل او الولايات المتحدة ضمانات للأردن بألا يكون الماء جزءا من آلية السياسة والابتزاز الخفي الإسرائيلي؟ في اتفاقية الغاز التي لم يطلع الجانب الأردني على تفاصيلها إلا بعد توقيعها بأشهر تم وضع مادة “ألا يحق للمشتري (الأردن) العودة على اسرائيل او شركة نوبل اينرجي المنتجة للغاز اذا انقطع الغاز لأي سبب وتم إدخال شركة وهمية (الشرق) كبائع.. من سيكون بائع المياه ومن سيكون بائع الكهرباء.
البديل الآمن
تقول المصادر الرسمية لدينا ” ان المياه المحلاة من اسرائيل من خلال المشروع المقترح ستصل في حدود العام 2026، اي خلال 5 سنوات، وهي مدة يستطيع الأردن تحملها مائياً في ظل ما ينفذه من حلول الآبار الجوفية العميقة وتحسين الادارة المائية وتقليل الفاقد وشراء المياه من مصادر أخرى.” واذا كان الأردن يستطيع ان يتدبر اموره خلال 5 سنوات، فالأمن الإستراتيجي الوطني يستدعي الشروع الفوري بإنشاء محطة تحلية في العقبة بحجم متوسط أو صغيرة من 30 الى 60 م.م.م سنوياً وبتمويل وطني. وما إن تنتهي حتى نبدأ بمشروع مماثل حتى نجهز البلاد لحالة من التبادل المتكافئ فيما لو أجبرنا على ذلك، دون الاسراع في الارتباط مع اسرائيل.
وتسترسل المصادر الرسمية بأن “هذا النوع من المشاريع سيساعد الأردن على ان يتبوأ مكانة متقدمة في الجوار والاقليم، كمركز اقليمي لتوليد وتصدير الطاقة مع جواره كما بدأ بالفعل باتجاه لبنان وسورية، وايضاً لاحقاً باتجاه أوروبا ذات الاحتياجات المتنامية للطاقة النظيفة..” تماماً كأننا نقرأ ما كان يقال العام 2008 عن الكعكة الصفراء التي سنصدرها لدول العالم خلال 4 سنوات ونكسب مليارات الدولارات.. مهلاً على المواطن ايها السادة، وبالهدوء واللطافة والتأني، ولا تدفعوا الناس الى بحر من الخيالات الواهمة، فالمسألة أعقد قليلاً ونعني كثيرا جدا مما تصوره التصريحات.