قبل مؤتمر “أيباك” الصهيوني الأخير، وخطاب نتنياهو فيه، وقبل توضيحات وتوكيدات كيري من على منصته، كانت قد اتضحت تمامًا، من خلال التصريحات والتسريبات وبالونات الاختبار، وليس التحليلات وحدها، كل ما سوف تتضمنه، أو ما تسعى إليه “ورقة العمل”، أو آخر مسمى يعتمد للمساعي الأميركية لإنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني وشطب القضية الفلسطينية…اتضح لمن تابع، وحتى لمن أشاح الوجه، أنها لن تعدو ما يمكن وصفه بورقة تفاهم، أو خارطة طريق جديدة تذكِّرنا بسالفتها المرحومة ومآلاتها، يمكن لمن شاء من طرفيها إبداء تحفُّظه على ما لا يروقه منها، بمعنى آخر، تفاهم على عملية إخراج لاستدامة عملية تفاوض وتفاوض على التفاوض حتى إنجاز التصفية… لكن من المضحك المبكي أنه، وفقط بعد مؤتمر “أيباك” وخطاب نتنياهو، وتوضيحات كيري وتوكيداته، قد اتضح للدكتور نبيل شعث، القيادي في حزب سلطة رام الله، ما دفعه لاعتبار الخطاب “إعلان إسرائيلي رسمي من طرف واحد بإنهاء المفاوضات”، وإن يرى في مضمون ما أعلنه أنه “بوضوح رفض لكل قواعد السلام، ولكل قواعد المفاوضات النهائية التي اتفقنا عليها مع الإدارة الأميركية، وهي قضايا الحدود واللاجئين والاستيطان وكل قضايا الوضع النهائي”! غير أن الدكتور شعث اكتفى بتوصيفه هذا لخطاب نتنياهو وغض الطرف عن توضيحات وتوكيدات كيري التي تقول بأن “الهدف النهائي ينبغي أن يكون ترتيبات أمنية توفِّر للإسرائيليين أمنا أكثر، واعترافا بالدولة اليهودية ودولة للشعب الفلسطيني، ونهاية النزاع وكل المطالب”، بل تجاهلها عندما قال بأنه “إذا قبلت الإدارة الأميركية هذا الأمر، ولا أعتقد بأنها ستقبل، فنحن سنرفض”، ولم يتوقف أمام ما قاله نتنياهو في خطابه الأيباكي بعيد لقائه أوباما من أن “الحلف مع أميركا في ذروته، وليس هناك دولة على وجه الأرض موالية لأميركا أكثر من إسرائيل”، ورد كيري لحسنة نتنياهو بعشرة أمثالها حين قال، “سنواصل الوقوف إلى جانب إسرائيل”، بمعنى أن الحليفين لم ولن يختلفا على المطلوب إخراجه وإنما قد يتفاوضان أحيانًا على ما قد لا يتفقان على ما هو الأنسب في عملية هذا الإخراج، أو جوهر ما جعل الدكتور شعث يعتقد، أو يتوهم، بأن الإدارة الأميركية لن تقبله… نعم، إن من مسلمات العلاقة الأميركية الصهيونية العضوية، أو علاقة الثكنة بالمركز، إنه إذا لزم الأمر فإن واشنطن تأمر وتل أبيب تنفِّذ، لكنما فيما نحن بصدده لا من حاجة لمثله هنا ولا ما يستدعيه، فالتطابق في الجوهر قائم وأكَّده أوباما ونتنياهو وأعلنه كيري على خشبة المحفل الأيباكي الصهيوني… ما الذي لا يختلف الحليفان عليه؟!
على رأس القائمة في الورقة الكيراوية تتربع مسألة يهودية الكيان الاستعماري الغاصب، والتي تعني ببساطة شرعنة الأساطير التلمودية وإسقاط الفلسطينيين بأنفسهم لحقهم التاريخي في وطنهم المغتصب، وإنهاء الصراع، أو ما دعاه كيري “وكل المطالب”، أي كل ما يقع ضمنه كل ما عناه شعث عندما أشار لما قال إن الأوسلويين قد اتفقوا عليه مع الإدارة الأميركية، أو خيَّل إليهم أنهم فعلوا، أو ما يحلو للأوسلويين تسميتها بـ”قضايا الحل النهائي”، وفي مقدمتها شطب جوهر القضية الفلسطينية، أي حق العودة، والقفز على مسألة القدس بغامض التعرض لها في الورقة، مقابل مغريات الكلام عن حدود 67 التي تنسخها حكاية تبادل الأراضي، والكلام عن حل الدولتين، بمعنى دويلة “بانتوستانات”، ولتدعى حتى امبراطورية، فلا يهمهم مسماها بقدر ما يهمهم جوهر ووظيفة هذا المسخ، ولا أن تسمى مستقلة ما دامت محتلة، أو أن توصف بالحياة، بغض النظر عن انتفاء ما يحييها، فالشق الأمني من الورقة وحدة كفيل بعدم استقلاليتها… لماذا؟!
أولًا: مجردة من السلاح، مع سيطرة المحتل على المجالات الجوية والإلكترومغناطيسية، يضاف إليه محطات الإنذار، ومراقبة المعابر، وشفط مياهها، وإبقائها تحت طائلة حق المحتلين فيما يسمونه بـ”المطاردة الساخنة”، أو اصطياد المقاومين وفقما يفعلونه الآن في سائر أوسلوستان السلطة… وأخيرًا إن تنفيذ المتفق عليه سيكون رهنًا بـ”حسن سلوك الفلسطينيين”، أي أن التفسير الأميركوصهيوني لقابلة للحياة هو قيام هذا الكائن المسخ بالتزاماته تجاه أمن الغاصبين وحسن سلوكه تجاههم، وضمانه لإنهاء الصراع ودفن القضية، ونجاعته في كبح النضال الفلسطيني وإطفاء روح المقاومة وملاحقة ثقافتها لدى شعب استشهادي وقضية عصية على الموت. وإذا ما أضفنا لذريعة حسن السلوك هذه أن إخلاء المستعمرات غير الكبرى، أي الثانوية أو المنعزلة، سيكون بالتدرُّج وعلى مراحل قد تمتد لسنوات، وكذا انسحاب الجيش الصهيوني من الأغوار، تتضح لنا هنا مسألة تأبيد الاحتلال لدويلة كيري، ناهيك عن كامل فلسطين.
والآن، وقد بان ما بان حتى للدكتور شعث، وكان قد اكتشفه قبله مفاوضهم الدكتور أشتية، أو إذا كان قد اتضح له بعد مؤتمر “أيباك” ما كان واضحًا قبله، وإذا ثبت له متأخرًا ما كان قد ثبت فيه من قبول الأميركان بما يقول إنه يرفضه، أو هم خيَّبوا أمله فيهم لأنهم ليسوا كما لا يزال يعتقده، وهذا ما لن يطول انتظاره له على أية حال… ما هو بديلك يا شعث؟؟!!
… وهل من بديل لدى الأوسلويين سوى مزمن عاهة “المفاوضات حياة”؟؟!! وهنا بالضبط يكمن السر في توكيدات كيري وعربدة نتنياهو…