لم يفاجئ قرار المحكمة المصرية المستعجل، بحظر أنشطة حركة “حماس” ووقف التعامل معها، أياً من المخاطبين بهذا الحكم القضائي المؤقت، بمن في ذلك قادة الحركة الإسلامية أنفسهم، الممنوعون من اجتياز عتبة معبر رفح الحدودي منذ نحو مئتي يوم، كانت كل الشواهد خلالها تُنذر بما هو أفدح من إغلاق مقرات لا وجود لها، وحظر أموال غير مودعة في بنوك ممنوعة أصلاً من التعامل مع قطاع غزة المحاصر.
ذلك أن القطيعة بين السلطة الانتقالية في مصر وفرع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في غزة، كانت تتفاقم باطراد، وتشي بأن “ديناميات” الأزمة ومسارها ينتقلان من طور إلى طور أعلى بتسارع؛ فيما كبحت المتاعب الداخلية المصرية من جهة، والحسابات السياسية المعقدة لدى الجانبين معا من جهة ثانية، حدوث هذه الانعطافة المفصلية في وقت مبكر، ناهيك عن تخفيضها إلى درجة أدنى من وصم “حماس” بأنها منظمة إرهابية.
ولسوء الحظ، ليست هناك اليوم عاصمة عربية على علاقة حسنة بالطرفين، يمكن لها أن تقوم بدور وساطة، وتبريد نيران الأزمة المرشحة لمزيد من الاشتعال والانتشار، بفعل ردود الأفعال العصبية، والاتهامات المتبادلة، بين طرفين ممتلئين بالهواجس المتقابلة، والشكوك بالنوايا المبيتة لدى كل جانب إزاء الآخر.
والحق أن الحديث عن طرفين في هذه الأزمة هو حديث فيه شيء من المبالغة؛ إذ لا يستوي حجم مصر ووزنها الإقليمي الراجح بشدة، مع وضعية تنظيم متهم ومعزول، يحكم بقوة الأمر الواقع شريطاً من الأرض يتنفس عبر الرئة المصرية. الأمر الذي ينبغي معه وضع الأمور في سياقها الحقيقي، وتبسيطها على نحو يفي بالغرض من هذه المطالعة التي تحاول استشراف مآلات هذه القطيعة المؤلمة لجانب واحد فقط.
اليوم، تعدى الأمر مسألة حملة إعلامية مغرضة وفق خطاب “حماس” الرائج، وتجاوز حدود التحريض لرأي عام مصري عاتب، استفزه التدخل الخارجي في شؤون بيته الداخلية؛ وذلك بعد أن انتقلت الاتهامات من فضاء الإعلام ومداخلات ضباط متقاعدين ومثقفين وفنانين، إلى حيز القضاء الذي باشر التحقيق والاستماع للشهود، والاطلاع على وثائق استخبارية، تشير إلى ما هو أكثر من شبهة واحدة بوقوع تجاوزات ماسة بالأمن والسيادة المصريين.
وعليه، فنحن اليوم أمام مشهد تقف فيه “حماس” وحيدة؛ مجردة من كل أوراقها الصالحة للمرافعة أمام هذه الضائقة الشديدة، سوى هذا الخطاب الانفعالي القائم على الخلط التعسفي بين الحكومة المقالة وبين قطاع غزة والشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. فيما تبدي القاهرة، أكثر من ذي قبل، تمييزا بين “حماس” كمكون إخواني معاد لها، وبين كل من تدعي الحركة الإسلامية أن الحكم القضائي يجور عليهم، ويقدم خدمة مجانية لأعدى أعدائهم.
ولعل السؤال الأجدر بالطرح في هذه الآونة، هو: ما السبيل المتاح الآن لعبور برزخ هذه الأزمة المتدحرجة، من غير قيام “حماس” بإجراء مراجعة استراتيجية شاملة ومعمقة، ليس فقط لمفردات الخطاب المتدثر بمقاومة لم تعد تقاوم، أو البكاء على مصالحة ليست على جدول أعمال أحد، أو الاستثمار في معاناة شعب محاصر زادت “حماس” من آلامه، وإنما لتموضعاتها على الخريطة السياسية الفلسطينية الراهنة؟
قد تتمنى “حماس” حدوث تهور عسكري مصري يرد لها مظلوميتها، ويعيد إنتاجها في صورة الضحية. وقد تسعى الحركة الإسلامية للهروب إلى الأمام، عبر افتعال مواجهة محسوبة مع إسرائيل لاسترجاع أمجادها السابقة. غير أن هذه البدائل لن تقدم حلاً ابتكاريا لأزمة حركة أوقعت نفسها في مثلث عداء محكم (مصر، وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية)، بلا أنفاق وآفاق، ولا حلفاء إقليميين، ولا حاضنة شعبية حقيقية، ولا أي من عوامل الرفع الذاتية.
هذه ليست لحظة الترفع عن الواقع والتنكر للحقائق، إن لم نقل إنها لحظة “حماس” السياسية المواتية لقلب الطاولة في وجه جميع الأعداء والخصوم، وذلك بالانسحاب من واجهة المشهد السياسي الفلسطيني، والابتعاد عن مغانم سلطة محاصرة، والنأي بالنفس عن أعباء إدارة سلطوية فاشلة. ومن ثم إعادة الأمر إلى نصابه السابق؛ أي التمسك بالصفة الأساسية التي وجدت من أجلها، كحركة مقاومة وطنية ذات مرجعية إسلامية، متعففة عن إغراءات السلطة، ومعفاة من دفع استحقاقاتها السياسية.
عيسى الشعيبي/مصر و”حماس”.. الشدائد تزداد شدة
19
المقالة السابقة