واظبت منذ زمن على متابعة الخطابات السنوية لرؤساء الدول في الأمم المتحدة، واستطيع القول بأن مجمل هذه الخطابات تتناول ثلاثة مواضيع رئيسية تتمثل في الوضع الدولي، والوضع الاقليمي، والوضع الداخلي، من نواحي في الأساس سياسية واقتصادية وبيئية، وكيف تنظر هذه الدول إلى تحقيق الاستقرار العالمي.
أبهرني ما سمعت هذا العام من فاه جلالة الملك عبد الله الثاني في الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أيلول 2021، وخُيّل لي بأن الذي يتحدث هو فعلا زعيم عالمي يستند في خطابه إلى رؤية عالمية، فجاء خطابه شاملاً وافياً وكأنه يرسم للعالم خارطة طريق وخطة عمل للوصول إلى الأمن والسلم العالميين.
نعم خطاب أبهرني من شخص واثق، ومثقف، وخبير وضليع في القضايا العالمية والعربية والمحلية، ولكن لم اتعجب من أن هذا الزعيم العالمي لديه هذا المنطق وهذه الشخصية الجامعة، لأنه ببساطة شديدة سليل عائلة هاشمية لطالما كان لها حضوراً وتأثيرا كبيرا عالميا وعربيا ومحليا.
وأذكر حينما كنت شاباً يافعا حضر المغفور له جلالة الملك عبد الله الأول بن الحسين إلى مدينة نابلس في ضيافة العم المرحوم الحاج معزوز المصري، الذي كان واحدا من أهم قيادات المدينة في حينه، وبدأ المغفور له بالحديث عن الأوضاع في المنطقة، وكيفية التعامل مع الوضع الناشئ عن احتلال فلسطين عام 1948، وما هي المهمات الواجب عملها من أجل مواجهة أطماع الحركة الصهيونية ليس فقط التي تستهدف الأردن وفلسطين، وإنما البلدان العربية بشكل عام، كما تحدث عن أهمية تعزيز وحدة المملكة التي ضمت في حينه الضفة الشرقية والغربية، وكان كلامه واعياً وعنده رؤية ثاقبة فيما يخص معادلة العلاقة الفلسطينية الأردنية وتأثيرها الآني والبعيد المدى، ولم أنسر الجانب الإنساني في تعامله مع الجميع، حينما سألني عن تعليمي ودراستي وماذا أريد أن أعمل في حياتي المستقبلية.
كان خطاب الملك عبد الله الثاني في الأمم المتحدة شاملا من جميع جوانبه، فبدأ حديثة عن أهمية التصدي للمخاوف المشتركة، والتنبه للأخطار العالمية المحدقة، من أجل تحقيق ما أقرته الأمم المتحدة في أجندة التنمية المستدامة 2030، وقال واثقاً بأن هذا التزام على الدول بأن لا “نترك أحدا خلف الركب”. وتطرق إلى جائحة كورونا التي حولت العالم إلى قرية صغيرة تواجه خطرأ مشتركا لا يمكن مواجهته إلا من خلال التضامن والعمل المشترك، كما أشار إلى التحديات المشتركة مثل التغير المناخي، والصراعات العنيفة التي يستغلها المتطرفون حول العالم، والتصدعات التي تزعزع الاستقرار الاقتصادي، وأزمة اللاجئين العالمية التي ما زالت مستمرة، مؤكدا أن هذه المخاطر والتحديات يمكن التعامل معها بالعمل الجاد والمشترك وليس بالتمني، وهذه النظرة الشمولية تعكس إدراكه الفطري بكيفية التحدث مع العالم بلغة يفهمها العالم، هذا الإدراك نادرا ما تجده في لغة الخطاب العالمية.
الوفاء لفلسطين أرضاً وشعباً كان حاضرا بقوة في خطاب جلالته، فالوفاء من شيم الهاشميين أباً عن جد، فكما كان المغفور له الشريف حسين، والمغفور له الملك عبد الله الأول، والمغفور له الملك حسين بن طلال، أوفياء لفلسطين، واصل الملك عبد الله الثاني مسيرة الوفاء فالشبل الذي كان أمامنا في الأمم المتحدة من تلك الأسود، فهو يعي تماماً أن فلسطين أساس الصراع، وأنه بدون حل هذا الصراع لن يتحقق الأمن والسلم العالميين، كما تحدث عن معاناة الأهل في قطاع غزة الذي لا زال يتعرض لعملية حصار وتجويع وحروب تأكل من أبناءه حياتهم واعمارهم واحلامهم وآمالهم، مؤكدا بأن هذه المعاناة لا يمكن لها أن تستمر، مشيرا، بإدراك تام، إلى ضرورة مواصلة دعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تعمل وفقا لتكليفها الأممي وتوفر خدمات إنسانية حيوية لـ 5.7 مليون لاجئ فلسطيني، فهو يقول للعالم أن وجود الاونروا هو شاهد على نكبة الشعب الفلسطيين، ولا يمكن الاستغناء عن خدماتها إلا إذا تم حل القضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية.
الإنسانية والمسؤولية تجلت في هذا الخطاب، حينما تسائل جلالته متعجباً وبلغة صارمة واثقة “كم بيتٍ سيدمر وكم طفلٍ سيموت قبل أن يصحو العالم”، واضعاً إجابة جليه وواضحة بقوله “لا يمكن أن يتحقق الأمن الفعلي لكلا الطرفين، بل للعالم بأسره، إلا من خلال السلام المبني على حل الدولتين، الذي يفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة والقابلة للحياة على خطوط حزيران عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، لتعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل”، فهو قال بشكل قاطع وبلغة مفهومة وبدون أن يذكر ذلك صراحة، بأن صفقة القرن، -التي رفضها الأردن وتحمل تبعات هذا الرفض -، لا يمكن لها أن تكون ولا يمكن لها أن تحقق الاستقرار والسلم العالمي، لأن هذا يتحقق فقط من خلال حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية.
وهنا أود القول بأن رؤية جلالته لا شك بأنها مبنية على قرارات الأمم المتحدة، وكلنا معك في هذا الحل الذي عليه اجماعاً دوليا، وفي ذات الوقت لا بد أن أستذكر هنا أخي الراحل القائد الشهيد أبو عمار، الذي شارك جلالته هذا التوجه، ولكن في ذات الوقت كان شهيدنا الرمز أبو عمار ينظر إلى حل الدولتين كحل مرحلي، حيث كان يتحدث عن دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني يعيش بها الجميع متساوين في الحقوق والواجبات.
ولا بد لي هنا أيضا أن أقول بأن حل الدولتين وإن كان مرحليا، فنحن نؤمن بأن دولة فلسطين الكاملة السيادة والمستقلة، لا بد لها وأن تكون شقيقة المملكة الأردنية الهاشمية، لأننا حقيقة شعب واحد تربطه علاقات متداخلة سواء أكانت عشائرية أو جغرافية أو تاريخية أو رابطة الدعم، وغيرها فنحن شعبين بمصير واحد مشترك، تربطه علاقات ليس لها مثيل بين شعوب العالم، ولا ننسى ما قدمه الشعب الأردني وقيادته وجيشه من أجل فلسطين.
أسد القدس هو جلالة الملك عبد الله الثاني، فهي في وجدانه، وهو معها قلباً وقالباً، يعمل جلالته من أجل السلام ويعلم تماماً أن “القدس الشريف في قلب هذا السلام”، مؤكداً أن هذه المدينة المقدسة بالنسبة لمليارات البشر ستبقى مقدساتها الإسلامية والمسيحية تحت رعاية وحماية ووصاية الهاشميين، ومواصلة العمل في “الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني القائم في أن تجمع القدس الشريف بين المسلمين والمسيحيين واليهود”، وفي ذات الوقت، ومن أجل السلام والأمن العالميين يطرح إمكانية أن تكون المدينة المقدسة “وبجهد دولي، رمزا للوحدة وليس للفرقة”.
إن هذا الموقف لم يكن منقطعاً عن سياقه التاريخي التي تمسكت به الأسرة الهاشمية، فإنا سأبقى أذكر موقف المغفور له جلالة الملك حسين، الذي ربطتني به علاقة قوية منذ العام 1956، وكانت أول مرة اتعرف اليه وأشعرني حينها بأنني أنا الملك لتواضعه ودماثته واحترامه للآخرين، وتعمقت هذه العلاقة عام 1970، حينما كنت وزيراً في حكومة المرحوم وصفي التل، وقبلها عندما بدأت الاحداث المؤسفة والتي أصبحت تعرف باحداث أيلول الأسود، حيث يعتبر موقف جلالة المغفور له الحسين بن طلال تجاه القضية الفلسطينية والقدس مبدئياً ومركزياً في، فكانت دائماً القدس والقضية الفلسطينية حاضرة في ضميره ووجدانه، وفي خطاباته في هيئة الأمم المتحدة وفي جميع المحافل الدولية، وأستذكر هنا وفي العام 1981، رسالته التاريخية إلى الرئيس الاميركي، في حينه، رونالد ريغان والتي وضح من خلالها للرئيس الاميركي المعتقدات التوراتية المزيفة التي كان يؤمن بها حول فلسطين والقدس والمسجد الاقصى، نتيجة لتأثره بالدعاية الصهيونية، وأكد في ذات الرسالة على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وهذا هو الموقف المبدئي المعروف لجلالته رحمه الله، وهو موقف الملك عبد الله الثاني اطال الله في عمره.
لم تكن القضية الفلسطينية وحدها هي ما يقلق جلالته، وهو ما عبر عنه الخطاب الشامل، حينما تحدث عن لبنان، وعن الأزمات التي تعصف بالعالم العربي والعالم بشكل عام، وعن ضرورة حل المشاكل وعن عدم “التخلي عمن يحتاجون المساعدة”، وعدم “ترك الأبرياء عرضة للخطر”، وعدم “ترك الصراعات تستشري دون حلها، لان إبقاء الصراعات دون حل جذري “يخدم المتطرفين حول العالم، الذين يستغلون حالة اليأس والإحباط والغضب الناجمة عن هذه الأزمات”.
إنني ومع خبرة حياة طويلة، عشتها وكان لي علاقات مع الكثير من زعماء العالم، والسياسين، وصناع القرار، أقول بأن جلالته وضمن الرؤية التي يحملها ويعمل على تحقيقها، يستحق أن يقال عنه “نجم الأمم المتحدة، وداعية السلام العالمي”. فخطابه عظيم ويستحق بكل جدارة أن يتم توزيعه على المدارس والجامعات ودور العلم في العالم أجمع لما يحمله من أفكار عظيمه تمثل الإنسانية بكامل أدميتها.
نجم الأمم المتحدة وداعية السلام العالمي/ منيب رشيد المصري
8
المقالة السابقة