رغم التئام جولتي تفاوض بين وفدي النظام السوري والمعارضة ضمن مؤتمر جنيف 2 الذي انطلق في الثاني والعشرين من يناير الماضي فإن ما أفضتا إليه هو خيبة الأمل ليس للمشاركين فيه وإنما للشعب السوري الذي يدفع كلفة ثورته التي انبثقت قبل ثلاث سنوات تقريبا ضد استبداد نظام يتسم بالقدرة على توليد القهر وإعادة إنتاج أساليب الحكم التي تقوم على الديكتاتورية الفظة ورفض تفتيح ورود حدائق الحرية والهيمنة على كل مفاصل الوطن ومكامن السلطة والثروة فيه ومنحها للمرتبطين به من أفراد أسرة الرئيس وعناصره الأمنية سواء في المؤسسة العسكرية أو مؤسسة الأمن والاستخبارات فضلا عن رموز الحزب الحاكم الأوحد وطبقة رجال الأعمال التي ترتبط مصالحها باستمرار النظام بآلياته
ولعل الأخضر الإبراهيمي المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية لسوريا قد التقط هذه الحقيقة فسارع في مؤتمره الصحفي بنهاية الجولة الثانية ظهر يوم السبت الماضي إلى تقديم الاعتذار والأسف للشعب السوري عما وصفه بعدم قدرة “جنيف 2” على إحراز تقدم يصب باتجاه الآمال الضخمة والخروج من الكابوس الرهيب الذي يعيشه وفق تعبير الإبراهيمي نفسه والسؤال المحوري هو من يتحمل مسؤولية إخفاق هاتين الجولتين؟
من خلال قراءة ما ورد في تصريحات الإبراهيمي في المؤتمر الصحفي نفسه يمكن تلمس الطرف المسؤول والذي يتمثل أساسا في وفد النظام الذي أبدى قدرا كبيرا من التعنت في رفضه لكل الطروحات التي تقود إلى منطقة وسط بين مواقفه من ناحية ومواقف المعارضة فهو يقول إن التعثر الذي شهدته مفاوضات جنيف نتج عن تمسك الوفد الحكومة بمناقشة مكافحة الإرهاب قبل الانتقال إلى مناقشة أى قضية أخرى رغم أن هذا البند لم يرد ذكره في بيان “جنيف 1″ الذي صدر عن اجتماعات القوى الكبرى والقوى الإقليمية المعنية بالأزمة في الثلاثين من يونيو 2012 ويشكل الإطار الحاكم لـ”جنيف 2”.
كما رفض الوفد الحكومي مناقشة تشكيل البند الخاص بتشكيل هيئة الحكم الانتقالية والتي نص عليها “جنيف 1” والتي قدم وفد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وثيقة مفصلة حول تشكيلها وصلاحيتها والخطوات التفصيلية التي ستتبعها لإعادة الأمن للشعب السوري وبناء مؤسسات الدولة وإصلاح الجيش والمدهش أن الوفد نفسه رفض مقترحا من الإبراهيمي بتخصيص يوم لمناقشة وقف العنف ومكافحة الإرهاب وآخر لمناقشة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي وهو اقتراح يتسم بالعملية والتوازن وفق قواعد التفاوض المعروفة في القانون الدولي لكن النظام يرفضه لأنه سيدفعه دفعا للبحث في محاولة تغيير بنية النظام السياسي من خلال مناقشة آليات تشكيل هيئة الحكم الانتقالية بصلاحيات كاملة سينجم عنها إعادة ترتيب وضع السلطة، والتحضير لكتابة دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية بعد أن يكون قد جرى وقف الصراع المسلح وإطلاق سراح المعتقلين وعودة المهجرين والبدء بإعادة الإعمار وهى كلها عناصر تخصم من رصيد بقاء الأسد الذي ما زال يتطلع إلى الاستمرار في السلطة على جماجم الشعب عبر إعلانه الاستعداد للترشح للانتخابات الرئاسية التي من المقرر أن تنظم هذا العام وهو ما يتقاطع مع رفض شعبي واسع.
وحتى أكون منصفا فإن بعض دوائر المعارضة التي أخرجت من اللعبة لن تقبل بهذه العناصر التي تجردها من مقومات قوة تمتلكها على الأرض خاصة الأصولية والتي كشف النقاب عن ارتباط بعضها بنظام الأسد وفق ما ذكره الجيش السوري الحر وتحديدا ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام والمعروف بـ”داعش” والذي قاتلته تنظيمات إسلامية وعسكرية أخرى لكنه يتسم بنوع من التماسك وهو ما يفسر هذا الارتباط المريب بالنظام.
ولا يخرج تفسير هذه المواقف المتعنتة للوفد الحكومي في جنيف 2 عن أنه كان معبأ بتعليمات بشار الأسد وأركان حكمه خاصة على المستوى الأمني والاستخباراتي والتي لا يمكنه تجاوزها أو القفز عليها. وتهدف بلا شك إلى إجهاض المؤتمر وهو ما تحقق بالفعل بعد جولتين شهدتا تناقضات وتباينات واضحة بين طرفي الأزمة على نحو ينبئ بأن سير الأمور خلال الجولة الثالثة وربما الرابعة والخامسة والسادسة حتى العاشرة لن تفضي إلا إلى المزيد من الإخفاق مادام النظام متمسكا بمنهجية إهدار الزمن والتي يجيدها مثل غيره من النظم الاستبدادية متكئا في ذلك على دعم لوجستي سياسىي وعسكري واقتصادي من روسيا الاتحادية وإيران وحزب الله وميليشيا شيعية عراقية الأمر الذي مكنه في الأشهر الثلاث الأخيرة من تحقيق بعض الاختراقات العسكرية في جبهات القتال مع كتائب الثوار مستغلا في الوقت نفسه الصراعات بين الفئات المقاتلة خاصة تلك التي تنتمي إلى فصائل إسلاموية تمتد جذورها إلى تنظيمات إقليمية ودولية تتسم بالتطرف وتوصف بالإرهاب.
والمؤسف أن النظام لم يكف خلال أيام التفاوض عن توجيه آلته الحربية خاصة الطائرات المحملة بالبراميل المتفجرة إلى المناطق والمدن الخاضعة لسيطرة الثوار فيتلقاها المدنيون بأجسادهم ومنازلهم فتباد وقد قتل أكثر من خمسة آلاف شخص منذ انطلاق جنيف 2 مما رفع أعداد القتلى ضحايا استخدام النظام للقوة المفرطة إلى 140 ألف شخص مع تزايد في أعداد اللاجئين بالخارج والنازحين في الداخل والذين يبلغ إجمالي أعدادهم أكثر من سبعة ملايين وفق إحصاءات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية كما أن النظام لم يستجب إلا بصورة طفيفة لإدخال المساعدات الإنسانية وفك الحصار عن المناطق المحاصرة خاصة في حمص ووصلت به القسوة المفرطة إلى حد استجواب النازحين الذين كانوا يخرجون تحت رعاية الأمم المتحدة وهو أمر يتناقض مع القانون الدولي الإنساني الذي ربما لم يقرأه الأسد أو الدوائر المحيطة به.
وبالطبع فإن المطلوب وبالذات من القوى الدولية صاحبة التأثير المباشر في الأزمة وتحديدا الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية أن تجريا تقييما موضوعيا ومنصفا لما جرى من وقائع جنيف 2 حتى الآن ويتجاوزا المصالح الضيقة التي تحيط بمواقفهما حتى الآن وينظرا إلى مكابدات شعب ومعاناة وطن وذلك يستوجب تحركا فاعلا من قبل الجامعة العربية وأمينها العام الدكتور نبيل العربي الذي يولى الأزمة اهتماما خاصا منذ توليه منصبه في يوليو2011 وفي هذا السياق أعلن عقب اتصال الإبراهيمي به هاتفيا – بعد ظهر أمس الأول – والذي أبلغه فيه بتعثر الجولة الثانية أنه سيتم اللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن لبحث الاتخاذ الخطوات التي من شأنها أن تدفع بالأمور إلى مقاربة الحل السياسي وفق محددات جنيف 1 حتى لا تخرج الأزمة السورية عن السيطرة ومن ثم تدخل المنطقة كلها في جحيم سيكون من الصعب كبح جماحه في ظل اختلاط الأوراق وتداخل المصالح الإقليمية والدولية المتصارعة والتي تسعى كل منها إلى الحصول على قطعة من الكعكة السورية التي تبدت مفاصلها واضحة للعيان ولم يتبق سوى تفتيتها.
السطر الأخير:
أغزلك حقلا من قمح
نسيجا من فرح
براءة تسكن أشواقي
رحلة لقوس قزح
أسافر اليك مدفوعا من نبض لا يتوقف
ففيك العصافير ترسم إشعاعها
وتطل عليك النوارس من سواحل الأفق
كوني لقلبي متكئا
العزب الطيب الطاهر/المسافة في” جنيف 2 “ما زالت متسعة
18
المقالة السابقة