عروبة الإخباري – كتب د. رجائي المعشر
يفترض الإصلاح السياسي أن الأنموذج الديمقراطي الأردني بحاجة إلى إجراءات عميقة وتشريعات ناظمة جديدة وتعديلات دستورية جذرية ليصبح هذا الأنموذج قادراً على العمل بفاعلية وكفاءة.
وتفترض التنمية السياسية أن الأنموذج الديمقراطي الحالي المنبثق عن الدستور الأردني هو بناء صلب ومتين إنما يحتاج إلى مجموعة من الإجراءات والتعديلات القانونية التي تهدف إلى تطوير هذا البناء من خلال تحسين أداء مؤسساته وتوضيح العلاقة بينها وترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات وتوضيح مفهوم الولاية العامة وتجويد آليات العمل اللازمة لزيادة فاعلية هذا الأنموذج وكفاءته.
أنا من أصحاب الرأي الذي لا يرى ضرورة للإصلاح السياسي بالمفهوم أعلاه لأن البنية الأساسية للأنموذج الديمقراطي الأردني صلبة ومتينة وليست بحاجة إلى تعديلات جوهرية.
وللتذكير، فقد توافق الأردنيون على الأوراق النقاشية الملكية التي حددت بوضوح الأنموذج الديمقراطي الأردني المبني على الدستور وحددت مكوناته وبينت بالتفصيل المطلوب من كل مكوّن للسير بخطوات ثابتة نحو تمتين هذا الأنموذج وتحسين أدائه. كل هذا في سبيل الوصول إلى الأفضل في كل مرحلة من مراحل تطوير ونماء البنية الديمقراطية في الأردن. وأذكر أيضاً أن الأوراق النقاشية الملكية طرحت بشكل واضح الرؤية التي يجب على مكوناته العمل للارتقاء بأدائها لتحقيق هذه الرؤية. وعددت الأوراق النقاشية مكونات الأنموذج الديمقراطي الأردني بمؤسسة العرش، والسلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية بشقيّها (الأعيان والنواب)، والمواطن، والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام.
والتنمية تعني بالضرورة السير بخطوات ثابتة متدرجة ومدروسة للوصول إلى الأهداف المرجوة، إذ لا يمكن تطوير الأنموذج الديمقراطي الأردني بقرار أو تشريع إلا إذا صاحب هذه القرارات والتشريعات خطوات عملية لبناء ثقافة ديمقراطية مجتمعية يستطيع غالبية المواطنين من المشاركة الفاعلة للاستفادة الفضلى من مخرجات هذا الأنموذج والتي يجب أن تصب دائماً في تحقيق الأهداف الوطنية في التنمية والنماء تحقيقاً للمصلحة الوطنية العليا.
والتنمية السياسية بهذا المفهوم هي عملية نهضوية تشمل جميع مناحي الحياة: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتستوجب العمل المنسق في جميع هذه المجالات ضمن خطة وطنية واضحة الأهداف وبرامج تنفيذية تعمل مكونات الأنموذج الديمقراطي على وضعها حيز التنفيذ في أطر زمنية تعكس واقع الحال لكل مرحلة.
فالتنمية السياسية ليست عملية سهلة، ترتبط اساساً بقبول التنوع والاختلاف بالرأي والايمان العميق بأنها عملية تراكمية تحتاج إلى مراجعة متكررة وتعتمد في ذلك على احترام الرأي الآخر، المساواة بين أبناء الوطن، المواطنة التي «لا تكتمل إلا بممارسة واجب المساءلة».
وتترسخ التنمية السياسية في كل مرحلة إلى المدى الذي يشعر بها المواطن أن مخرجات هذا الأنموذج الديمقراطي تعالج مشاكل الوطن مثل الفقر والبطالة، وتحسين خدمات الصحة والتعليم والنقل، وتوفر السلْم المجتمعي وتحسن نوعية حياة المواطنين وترفع من مستوى معيشتهم.
في مسيرة جلالة الملك المباركة منذ توليه العرش عام 1999 أكد جلالة الملك في أوراقه النقاشية وفي العديد من المناسبات الأخرى على تطلعه نحو الآتي:
1 – تأكيد دور الملكية الهاشمية بوصفها ضامناً للدستور، والدفاع عن الحقوق الوطنية، والسيادة، والعدالة الاجتماعية، وصيانة حقوق فئات الشعب، والديمقراطية ومنع انحرافها وحل الاستعصاءات السياسية التي تنشأ من جرّاء الممارسات الديمقراطية.
2 – بناء أردن ديمقراطي بصورة متدرجة يأخذ بالاعتبار الواقع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
3 – تشجيع المواطن على المشاركة الفعالة والقيام بأدوار المتابعة والمساءلة لمندوبيهم.
4 – التوجه نحو قيام حكومات برلمانية.
5 – تعزيز القضاء وتقوية دوره في الحياة السياسية الوطنية.
6 – حرية الرأي والتعبير والابتعاد عن الأخبار الكاذبة والتشهير.
7 – تعزيز الجهاز الإداري.
8 – تعزيز دور القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ودعمها في الحفاظ على أمن الوطن.
9 – تطوير اللامركزية كمرحلة مهمة في تطوير مفهوم وممارسات المشاركة الشعبية في صنع القرار.
وأجزم أن الأردنيين جميعهم يتفقون مع تطلعات جلالة الملك هذه. ولكن هل تقوم السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والمواطن ومكونات الأنموذج الديمقراطي الأردني بدورها في الوصول إلى هذه الأهداف؟ وهل لدينا خطة وطنية واضحة وبرامج تنفيذية لتحقيق هذه التطلعات على مراحل؟ وهل تقوم مؤسساتنا بمراجعة أدائها باستمرار بهدف تحسين هذا الاداء؟ وهناك أسئلة أخرى عديدة ولكن أكتفي هنا بهذا القدر.
نحن اليوم على أبواب بدء عمل مجلس الأمة الذي يشكل العامود الفقري للأنموذج الديمقراطي، وأطرح هنا بعض الأفكار التي أرى انها ضرورة للارتقاء بأداء الأنموذج الديمقراطي:
أولاً – مراجعة واقع حال المرحلة من حيث أداء السلطة التنفيذية والتشريعية ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والإعلام.
ثانياً – توضيح العلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية من منطلق مبدأ الفصل بين السلطات.
ثالثاً – توضيح مفهوم حصانة أعضاء مجلس الأمة.
رابعاً – توضيح الدور الرقابي لمجلس الأمة.
ولغايات توضيح ما ورد في النقاط الأربع أعلاه أسوق المثل الأول المتعلق بالفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وعلاقتهما ببعضها البعض:
أعطى الدستور الحق لمجلسي الأعيان والنواب باقرار نظاميهما الداخليين ورفعهما إلى جلالة الملك للمصادقة عليهما دون العودة إلى مجلس الوزراء، وذلك ضماناً لاستقلالية المجلسين، وعدم تدخل أية سلطة باسلوب عمل الأخرى. فإذا كان مبدأ استقلالية المجلسين من الأهمية للتأكيد عليه في الدستور، وإذا كان نظام كل من المجلسين شأن خاص بالمجلس ذاته، فهل تطبيق نظام الخدمة المدنية على أي من المجلسين يؤثر سلباً على مبدأ الفصل بين السلطات؟ واذا كان تطبيق النظام لا يؤثر سلباً على هذا المبدأ، فهل يجوز لمجلس الوزراء أن يتدخل في الجوانب الإدارية المتعلقة بالمجلسين من خلال مواد نظام الخدمة المدنية؟ أعتقد أن الإجابة على مثل هذين السؤالين يجب أن تتم من قبل المحكمة الدستورية لا أن يترك الأمر لتفسير أي من السلطتين.
وفي الوقت ذاته اعطى الدستور الحق للحكومة بإصدار نظام الخدمة المدنية بالاستناد للمادة 120 منه. فهل يجيز مبدأ الفصل بين السلطات للنائب أو العين التدخل في القرارات المتعلقة بما ورد في نظام الخدمة المدنية من تعيينات، وأسلوب التعيين وسلم الرواتب والمسميّات الوظيفية…إلخ، عن طريق السؤال او الاستجواب. وهنا أيضا يجب سؤال المحكمة الدستورية صاحبة الاختصاص حول هذا الأمر.
فإذا جاء رد المحكمة الدستورية مثلاً، أن النائب أو العين لا يملك مثل هذا الحق، فكيف له أن يراقب أداء الحكومة أو يحاسبها بموجب الصلاحيات الدستورية المخولة له. وقد تكمن الإجابة في حق مجلس الأمة تخفيض النفقات في الموازنة العامة عند مناقشتها واقرارها فاذا وجد العين أو النائب أن هناك ما يستوجب إلغاء قرارات الحكومة المتعلقة بأدارتها يستطيع طلب تخفيض أو إلغاء بند الإنفاق المتعلق بها.
وهنا أيضاً يجب أن تأتي الإجابة من قبل المحكمة الدستورية.
والمثال الآخر يتعلق بمفهوم حصانة أعضاء مجلس الأمة.
يعتقد البعض أن حصانة أعضاء مجلس الأمة تقتصر فقط على أقوال عضو مجلس الأمة وآرائه ومواقفه المعلنة تحت قبة البرلمان، فلا يؤاخذ على حديثه أو يحاسب عليه. وآخرون يعتقدون أن الحصانة تهدف إلى حماية عضو مجلس الأمة من قيام الحكومة باستخدام الأساليب المتاحة لها للتأثير على رأيه أو مواقفه، مما يحد من قدرته على مساءلة الحكومة ومحاسبتها. وآخرون يعتقدون أن الحصانة تضع أعضاء مجلس الأمة فوق القانون خلال فترة انعقاد المجلس في دورته العادية أو الاستثنائية.
وهنا أيضاً لا بد من أخذ رأي المحكمة الدستورية في مفهوم الحصانة، لأنه وبكل صراحة في بعض الأحيان يختبئ بعض أعضاء مجلس الأمة خلف الحصانة الممنوحة لهم للقيام بما لا يسمح به للمواطن العادي في مجالات لا علاقة لها بعملهم. وهذا يؤثر سلباً على عضو مجلس الأمة بل وعلى مجلس الأمة ذاته وعلى الحكومة على حد سواء، ويولد قناعة لدى المواطنين أن عضو مجلس الأمة أصبح فوق القانون، وهذا حتماً لا يقبل به عضو مجلس الأمة ولا يجب أن يكون.
لا أهدف في هذا العرض إلى وضع تصور لعلاقة السلطتين التنفيذية والتشريعية فهذا عمل يتطلب دراسات دستورية وقانونية من قبل مختصين في هذا الشأن. ولكن رأيت أن أضع هذا كأسلوب للتعاطي مع هذه المواضيع المهمة. وتجربتي عبر السنين كعضو في السلطتين التنفيذية والتشريعية علمتني أن غموض العلاقة بين السلطتين لها أكبر الأثر على أداء كل منها. وترك هذا الموضوع المهم دون معالجة، سيكون له آثاره السلبية على تطوير الأنموذج الديمقراطي الأردني.