تتصاعد الجرائم البشعة في مختلف أنحاء المملكة منذ أعوام، ولعل آخرها جريمة فتى الزرقاء، الأمر الذي كان يستدعي الوقوف منذ زمن، والتفكير في عواقب الجريمة وتأثيراتها على الأمن المجتمعي من جهة، واطمئنان المواطن إلى حياته وسلامته من جهة ثانية، وإلى مسيرة الأعمال والإقتصاد بشكل طبيعي وفي جو من الأمن والثقة من جهة ثالثة.
تبين التقارير الدولية أن مؤشر حكم القانون في الأردن للعام الماضي 57 %، وترتيبنا 50 من أصل 128 دولة. وإننا منذ 5 أعوام نتأرجح حول الرقم
58 % صعوداً إلى 60 % وهبوطاً إلى 56 %، الأمر الذي يعني أن تجاوزات وتساهلات تحدث بشكل واسع.
يتضمن مؤشر حكم القانون عددا من العناصر منها المقيدات على سلطة الحكومة (49 %)، وهي ليست كبيرة، والفساد (60 %) ظاهر الارتفاع، وانفتاح الحكومة (42 %) أقل من المتوقع، والحقوق الأساسية (48 %) أقل من الوسط، والنظام والقانون (76 %) جيد، وتطبيق الأنظمة (60 %) متوسط، والعدالة المدنية (62 %) متوسط، والعدالة الجنائية (57 %) منخفضة.
أما في مؤشر الجريمة، فإن ترتيب الأردن هو 77 من 133 دولة، ومؤشر الجريمة (40.8 %)، بينما مؤشر الأمان (59.17 %) وهي مؤشرات خطيرة تدعو إلى القلق الكبير، خاصة وأن الأردن يتسم بالتوافق المجتمعي وغياب الانقسامات الطائفية والمذهبية. في حين أن مؤشر الجريمة في السعودية مثلاً (26.68 %)، ومؤشر الأمان هناك (73.32 %). وهذا يبين أن مسألة الأمن المجتمعي من حيث الجريمة وحكم القانون والعدالة الجنائية تضع الأردن عند أقل من منتصف الطريق بينما تسبقنا دول كثيرة في المنطقة وخارجها.
لقد أصبحت الجريمة ظاهرة، وليس مجرد حالات فردية، خاصة وأن الإحصاءات الدولية تسجل ما هو معروف ومعلن فقط، ولا تسجل الجرائم واختراقات القانون التي يتم السكوت عنها لأسباب عائلية أو سياسية أو إدارية. وفي كثير من التقديرات، فإن المسجل والموثق يشكل من 30 % إلى
50 % فقط من اختراقات القانون. وكلما كان المجتمع أكثر انفتاحاً والحكومة أعلى شفافية والقضاء أكثر استقلالاً وأعلى إنجازية، اقتربت الحالات الموثقة من الواقع فعلاً. وإذا أخذنا خصائص المجتمع العربي عموماً ودرجة الشفافية في الإدارة فإن معدلات اختراقات القانون من تجاوزات وجرائم ربما تصل ضعف الأرقام الموثقة.
إن الأسباب وراء الجريمة والخروج على القانون متعددة، وتتطور وتتغير مع الزمن: ابتداء من الفقر والظلم الاجتماعي، مروراً بالجهل والجشع، والفساد وتدخلات المتنفذين والمحسوبية، والتطرف والبطالة والتهميش والإحباط، والأمراض النفسية والعصبية، ومفاهيم التسلط والبحث عن البطولة، وانتهاء بغياب العقوبات الرادعة وكثرة الثغرات القانونية، وضعف الإدارة، وتراجع التربية والثقافة الوطنية، وتهميش الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. وحقيقة الأمر أن معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي البطالة تتأثر بعوامل كثيرة وفي مقدمتها حكم القانون، فليس هناك من استثمار مضمون أو دائم في بلد يكون فيه حكم القانون ضعيفاً أو على الحافة.
وفي مثل هذه الظروف ترتفع المطالب الوطنية والمؤسسية بضرورة مراجعة القوانين، وسد الثغرات واقترانها بقضاء عادل وناجز وتغليظ العقوبات وبذا تكون المنظومة رادعاً كافياً يساعد قطعاً على الحد من الجريمة والتجاوز.
وهناك مسألتان لا بد من التعامل معهما بحكمة وبما تقتضيه الظروف الوطنية، الأولى: إن القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية تتجه نحو تخفيف العقوبات وإلغاء بعضها مثل الإعدام والسجن المؤبد. وهنا نتذكر قول رئيس الوزراء البريطاني كاميرون “عندما يتعلق الأمر بسلامة الوطن لا تحدثني عن حقوق الإنسان”.
أما الثانية: الكلفة الإقتصادية للجريمة والتي تقدر بأكثر من 4 % من الناتج المحلي الإجمالي، والكلفة المالية المتصاعدة لعقوبة السجن. فالسجين يكلف ما معدله 10 آلاف دينار سنويا مقابل 55 ألف دينار في بريطانيا مثلا، تؤخذ من موازنة الدولة. فقاتل صديقه الذي حكم بالسجن 20 عاما قبل أيام سيكلف الوطن على الأقل 200 ألف دينار يتحمل عبئها الاقتصاد الوطني والمواطن.
ويقال إن إطالة فترة السجن تعنى اجتماعياً تدهور عائلة السجين. والواقع أنه ما من مجرم محترف إلا وقد أوصل عائلته إلى الدمار بيديه، إن البديل الأفضل في الحالة التي نمر بها وضع برنامج وطني طويل المدى لتعزيز حكم القانون وتقليص الجريمة الصريحة والمبطنة أو الخفية وتعزيز القضاء وفي الإطار التالي:
أولاً: تغليظ العقوبة بشكل عام ومضاعفتها مرة ومرتين وثلاث مع التكرار حتى تصل الإعدام. فلا يعقل أن يحكم مرتكب الجريمة لعشرات المرات بنفس الحكم الذي يناله للمرة الأولى.
ثانياً: هناك جرائم غير معرفة في قانون الجنايات مثل: الإتاوات والخاوات والحماية الإجبارية، والتهديد غير المعلن، والابتزاز وعمل المثل، وافتعال الحوادث، وغير ذلك مما هو موجود في قيود المراكز الأمنية، وهي جرائم تولد جرائم أخرى وتجاوزات على القانون لا تقف عند حد. وهذه لا بد من وضعها بعقوبات صارمة تجعل ارتكابها للمرة الأولى باهظ الكلفة جدا على المجرم أو العصابة المنظمة.
ثالثاً: لا بد وأن يجبر السجين على عمل لا يأخذ عليه أجراً. وهنا يمكن التفكير بتشغيل السجناء في حفر الأقنية والحفائر والسدود واستصلاح الأراضي وتشجير الجبال الجرداء وغير ذلك.
رابعاً: إن عقوبة الإعدام ينبغي تطبيقها بدون تخفيف غير مبرر، فهناك عشرات الدول تمارس عقوبة الإعدام، وكان آخرها حين أعاد الرئيس الأميركي ترامب عقوبة الإعدام التي توقفت لمدة 17 عاما.
خامسا: نظرا لأن الكثير من المجرمين يعتمدون على أشخاص ذوي نفوذ مالي وسياسي أو إداري أو عائلي لحمايتهم، وإخراجهم من قبضة العدالة، فلا بد من وضع نصوص في مدونة السلوك الخاصة بالوزراء وكبار الموظفين والنواب والأعيان ورؤساء وأعضاء مجالس الإدارة تجعل أي نوع من التدخل لصالح أحد المجرمين شراكة مباشرة مع المجرم.
سادساً: إن الثغرات القانونية في قانون العقوبات هي طوق النجاة الذي يخلّص المجرمين من العقوبة. وهنا لا بد من فريق متمرس من المحامين والقضاة وضباط الشرطة وبعض الخبراء من مراجعة قوانين العقوبات ووضع النصوص القاطعة التي تسد هذه الثغرات.
سابعاً: وضع برنامج تربوي شبابي ثقافي جامعي طويل المدى للتوعية والتربية، يشجع الشباب على الانخراط في الرياضة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
ثامناً: إن تحسين الظروف المعيشية وخاصة في بؤر الفقر والتوسع في إنشاء المشاريع الإنتاجية في المحافظات والأرياف للحد من البطالة وتوفير فرص عمل مناسبة يشكل العمود الفقري لأي برنامج إصلاحي. تاسعاً: استخدام وسائل التتبع والإنذار الرقمية الحديثة للملاحقة والمراقبة والمتابعة للمجرمين.
عاشراً: وضع ضوابط صارمة للتعامل مع الحبوب المخدرة وتشديد الحملة على المخدرات بادئين بالحلقة الأضعف وهم ناقلو المخدرات. وأخيراً فإن الحملة التي بدأتها قوى الأمن لا بد من متابعتها ودعمها مجتمعياً وتفويض رجال الأمن بملاحقة المجرمين بكل قوة، فذلك الطريق الصحيح ليستعيد المجتمع الأردني وضعه الطبيعي في الأمن والطمأنينة والنشاط الاقتصادي من أجل المستقبل.
*وزير التربية والتعليم الأسبق