ليس من صراع أربك حالة الاستقطاب العربي، والجهة التي سيؤيدها العرب، كما هو الحال في الحرب الدائرة الآن بين أرمينيا وأذربيجان. ولذا قد سادت المشهد العربي حالة من الوجوم والتشتت، تم التعبير عنها بإطلاق تصريحات عامة ضعيفة المضمون، وغير قادرة على الحسم لطرفٍ على حساب الطرف الآخر. وسبب حالة الإرباك هذه ليس تعقيد الصراع وجذوره وارتباطاته التاريخية فحسب، ولكن أيضاً بسبب تداخل خريطة التحالفات السياسية بين اللاعبين الإقليميين والدوليين وبين من هم حلفاء في منطقةٍ ما وأعداء في منطقة أخرى.
المطبعون الجدد (كما يسمّيهم خليل العناني) يودون تأييد أذربيجان، حليفة الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن كيف لهم ذلك وتركيا هي الداعم الأول لها وشريكها الرئيسي في هذه الحرب، والتوافق مع تركيا هو خط أحمر ضمن أدبيات هذا المعسكر. خيارهم الآخر بدعم أرمينيا ليس أفضل بكثير من الخيار الأول، حيث إيران هناك شريك تاريخي لها. وفي الوقت نفسه، يواجه أنصار السياسة التركية في خريطة الصراع الإقليمية، أو ما يطلق عليهم “جماعة تركيا”، معضلات مشابهة أصابتهم أيضا بحالة من الإرباك، وعدم القدرة على حسم الخيارات، فكثيرون من مؤيدي تركيا يعتبرون إسرائيل عدوهم المركزي. وبالتالي، يعني تأييدهم أذربيجان وجودهم مع تل أبيب في المعسكر نفسه. كما أن مؤيدي تركيا السنيّة، والذين ينظرون إلى الصراعات الإقليمية بعين طائفية سيجدون أنفسهم مع إيران الشيعية، إن أيدوا أرمينيا.
لكلا المعسكرين، “المطبعون الجدد” و”جماعة تركيا”، وهم يتأملون صعوبة الخيارات وتعقيد المشهد السياسي، يمكن القول إن هناك أخبارا جيدة وأخبارا سيئة لهم. ويمكن مخاطبتهم، أولا بشأن السيئ: إن كنتم تعتقدون أن هذا المشهد صعب ومعقد ومحرج في كل الحالات، فستكون هناك مواقف أكثر حرجاً مما تشاهدون الآن، والسبب أن هذه هي طبيعة السياسة الدولية وخريطة التحالفات فيها، فالوحيد الثابت فيها هو التغير المستمر، وأعداء اليوم هم أصدقاء الغد، فلتكن على استعداد للقفز من اليمين إلى اليسار والعكس صحيح بين عشية وضحاها، وعندها ستكون عملية تبرير القفز أكثر إحراجاً من القفز نفسه. أما الأخبار الجيدة، فهي أن هناك حلاً سليماً، مهما زادت التناقضات في الخريطة السياسية، ويستحيل الجمع ما بينها، وهو الوقوف إلى جانب المبادئ مهما تغيرت التحالفات. المبادئ لا تتغيّر، ولكن الأطراف هم من يتغيرون، فلا خوف من شكل المعادلة في اليوم التالي. وبالنظر من هذه الزاوية إلى الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان، يمكن الاختيار بيسر إلى أين تقف ومن تؤيد، وبإمكانك تأييد السياسات والخطوات التي تجسدها.
أولاً، حق العودة للاجئين مقدّس، سواء كان ذلك في سورية أو البوسنة أو فلسطين أو غيرها. وهناك مليون لاجئ أذري أجبروا على ترك بيوتهم في حرب 1994، ولهم كل الحق بالعودة غير المشروطة إلى ديارهم، ومع السياسات التي تكفل عودتهم، بغض النظر عمن هو المستفيد من ذلك.
ثانياً، الاحتلال العسكري بالقوة لأرض الغير مرفوض، مهما كانت مبرراته. هناك أراض أذرية تحتلها أرمينيا منذ 1994 يجب الانسحاب منها، ولم يكن هناك مبررٌ لاستمرار احتلالها كل هذا الوقت، ما شكل سبباً رئيسياً لاندلاع الحرب الدائرة، إذ لا يمكن لدولةٍ ما أن تقبل باستمرار احتلال أرضها إلى الأبد.
ثالثاً، للشعوب الحق في تقرير مصيرها بعيداً عن الخوف والإكراه والترهيب. الأرمن ليسوا أذريين، ولن يكونوا كذلك مهما طال هذا الصراع، ولن يقبلوا الوحدة مع أذربيجان على حساب تلك مع إخوتهم في أرمينيا. وبالتالي، فإن تأجيل مساعيهم لنيل حقهم بتقرير مصيرهم لن يكون سوى إطالة المعاناة للجميع، وليس لهم وحدهم. يجدر القول إن الصيغ التي تسمح للدول بصون كرامتها الوطنية، وللعرقيات بتحقيق مصيرها، ليست مستحيلة، والعملية تبدأ بالحوار الهادف إلى الوصول إلى تسويات حقيقية، وهو ما افتقدته تجربة المفاوضات بين الطرفين، والتي احتكرها طرف ثالث (مجموعة مينسك) التي رأت في استمرار الصراع حفظاً لمصالحها الخاصة.
الحرب الدائرة حالياً مؤسفة، ويدفع ثمنها الشعبان الأرميني والأذري. ولكن يمكن رؤية هذه الحرب أنها أيضاً “حرب أكتوبر العربية” التي حرّكت الجمود بين أطراف الصراع، وأعادت جزءا من الكرامة المفقودة للعرب، استخدمها أنور السادات للدخول في معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل. الحرب الحالية اليوم، على الرغم من مآسيها ومعاناة أبنائها، وبما أنها وقعت وانتهى الأمر، يمكن أن تقدّم خدمات حيوية تجاه إنهاء صراعٍ استمر أكثر من ربع قرن، فقد أعادت جزءاً مهمّاً من كرامة الأذريين التي استبيحت في حرب 1994، حيث إنهم يحرّرون مساحات مهمة من أراضيهم وقراهم ومدنهم المحتلة، بجيشهم الوطني، غارساً الأمل في قلوب اللاجئين الذين فقدوا الأمل في العودة إلى بيوتهم. استعادة الكرامة واستعادة التوازن في موازين القوى أرضيات خصبة لنجاح مفاوضات الصراعات الدولية. ولذا يجب استغلال هذه الحرب لتحقيق سلام حقيقي وشامل بين الطرفين، وهو المبدأ الآخر الذي على العرب الوقوف إلى جانبه لاستعادة سلام شامل وعادل لشعوب المنطقة هناك، وهذا أيضاً سينقذهم من أي حرج مستقبلي، بسبب تغيير المواقف الناتج عن التقلبات في خريطة تحالفات الصراع في القوقاز.