يغادر رئيس الوزراء الأردني، عمر الرزاز، موقعه في رئاسة الحكومة، في استحقاق دستوري بعد حل مجلس النواب، من دون أن يتضح من هو خليفته، حتى كتابة هذه السطور، إذ لا يزال الاسم مساحةً لتكهنات النخب السياسية والإعلام في الأردن.
طالما كان موضوع “رئيس الوزراء” القادم محلاً للجدل والسجال على مرّ تاريخ الأردن، ولكن الأمر أصبح خلال الأعوام الماضية أكثر غموضاً، ومن دون وجود قواعد محدّدة تؤشر على شخصيته، فيما كان سابقاً يمكن التنبؤ بأسماء ومحدّدات، وربما دلائل سياسية معينة مرتبطة بطبيعة المرحلة.
هنا بيت القصيد؛ فهل ما يحدث من غموض كبير في اختيار الشخص المناسب أمرٌ صحّي وطبيعي، أم أنّه مؤشّر على ضعف التقاليد السياسية على أبواب المئوية الأولى للدولة، وبعد عمليات “جراحة تجميلية” على اللعبة السياسية، لم تؤدّ إلى أن تكون أكثر وضوحاً ونضجاً اليوم؟ في مرحلة سابقة، صعد النقاش في عمّان حول “الولاية العامة” للحكومة ورئيسها، وكانت هنالك مطالباتٌ بحكوماتٍ سياسيةٍ كاملة الدسم، تنسجم مع طبيعة النظام السياسي، النيابية الملكية الوراثية، لكن المواصفات اليوم تبدو مغايرة بدرجة كبيرة، مرتبطة بموجة ما تسمى “الحكومات التكنوقراطية”، فأصبحت مواصفات الرئيس مختلفة تماماً عما عهدته السياسة الأردنية في ظروف سابقة.
في لعبة “التحزّر” والتسريبات، تبدو مواصفات الرئيس المطلوب تتركز في خلفية اقتصادية بدرجة رئيسية، ما يرتبط بطبيعة التحدّي الاقتصادي الذي بات يشكّل تحدّياً كبيراً للسياسات الداخلية، بخاصة خلال الآونة الحالية مع ارتفاع معدّلات البطالة والمديونية المتضخّمة والعجز وتداعيات أزمة كورونا، فيما يغيب تماماً الاعتبار السياسي، على الرغم من وجود تحدّيات سياسية داخلية وخارجية لا تقل خطورة عن الإقتصادية، إن لم تكن تشكل منعطفاً كبيراً في تاريخ الأردن في اللحظة الراهنة.
المعضلة الحقيقية تتمثّل في أنّه حتى على الصعيد الاقتصادي لا توجد استراتيجياتٌ وسياساتٌ مستمرةٌ عابرةٌ للحكومات، بقدر ما هنالك محاولات واجتهادات وأزمات تتراكم، وتنتقل من حكومة إلى أخرى، ونجد أنفسنا، في نهاية اليوم، ندور في حلقة مفرغة سياسياً واقتصادياً.
ما سبق يقود إلى سؤال مهم رئيس في “المعادلة السياسية” الأردنية: كيف نخرج من هذه الحالة في غياب عملية ديمقراطية مكتملة، تؤدّي إلى حكومات ذات خلفيات سياسية وحزبية، تمتلك مشروعات ورؤى وبرامج وتأتي من خلالها إلى موقع القرار، وتكون توجهاتها معروفة سلفاً للرأي العام والآخرين؟ يحاجّ بعض السياسيين بأنّ مثل هذه الحكومات غير ممكنة، مع ضعف العملية الحزبية وواقع البرلمان الذي لا يفرز أغلبية برلمانية أو أحزاباً ذات ثقل سياسي، وبالتالي تتغلب النزعات الشخصية والسمات الفردية على طبيعة اختيار الرئيس والفريق الوزاري عموماً!
بالمناسبة، وإن كانت الحكومات الأردنية في العادة لم تخضع لاعتبارات حزبية سياسية، لكن اعتبارا سياسيا دائما كان في اختيار الرؤساء الذين يمثّلون بدورهم مدارس سياسية في المشهد الأردني، فلا يزال الأردنيون يتذكّرون التنافس على سبيل المثال بين مدرستي زيد رفاعي ومضر بدران، أو رجال دولة لهم مواقفهم واتجاهاتهم السياسية، الذين كانوا يأتون استجابةً للحظات وتحديات سياسية معينة، كوصفي التل وهزّاع المجالي وتوفيق أبو الهدى وزيد بن شاكر وعبد الكريم الكباريتي وأحمد عبيدات وعبد الحميد شرف، ورجال حول الملك مثل مروان القاسم وعدنان أبو عودة وبهجت التلهوني لكل منهم بصمته السياسية الواضحة.
بالتأكيد، لكل دولة زمن ورجال، لكن ما لا يمكن حجبه عن العين اليوم غياب النخب السياسية القوية في الدولة، وضعف رجال الدولة، وتراجع حضور الأحزاب السياسية في المشهد السياسي بصورة واضحة، وهو ما يتبدّى في الإنتخابات المقبلة مع ارتفاع ملحوظ بنسبة المواطنين الذين يعلنون عزوفهم عن المشاركة في الإنتخابات النيابية المقبلة.
بالضرورة، إذا كنا “سنجاري” فرضية عدم القفز في عملية ديمقراطية مفتوحة اليوم، وإذا كانت الشروط القانونية والسياسية في اللحظة الراهنة بحاجة إلى روافع، فإنّ الوضع الحالي مقلق جداً لما فيه من تراجع كبير في عملية “صنع السياسة”، ما يتطلّب مراجعة حقيقية عميقة لما آلت إليه الأمور، وإعادة النظر في قناعاتٍ كثيرة أوصلتنا إلى هنا.