السباق والمنافسة والصراع السياسي أمور مشروعة في كل بلاد الدنيا، لكن أطراف اللعبة السياسية في مصر الذين ظلوا يلطمون خدودهم، ويشكون من حصار نظام مبارك لهم، لا يتسابقون على كسب ود الناس، ولا يتنافسون من أجل توصيل برامجهم لفئات الشعب، ولا يتصارعون للفوز بثقة الجماهير وإنما يتقاتلون ويتشاتمون… ويسربون! وعلى رغم كثرة الشكاوى من أن أجهزة أمن مبارك كانت تسجل للناس مكالماتهم بشهادة وزير الداخلية السابق حبيب العادلي «اللي خايف مايتكلمش في التليفونات» فإن تلك الأجهزة لم تُسرب يوماً مكالمة لمسؤول أو لشخص معارض وإنما بدا وكأنها كانت تُسجل لتعرف أو ليعرف الناس أنها تعرف، ولم تُسرب لأنها احتفظت بالحد الأدنى من المهنية أو قل… الأخلاق.
بعد الثورة تغيرت الأمور، سرب «الإخوان» تسجيلات لحوارات جرت بين الفريق عبدالفتاح السيسي وبعض قادة وضباط الجيش أثناء فترة حكم محمد مرسي بهدف تشويه صورة السيسي والإساءة إليه، في إطار الحملة التي تشنها الجماعة عليه وعلى كل الأطراف التي لم تساندها، أو أيدت خلع مرسي، وحين جرى تسريب مكالمات مرسي مع جهات خارجية وشخصيات أجنبية غضبت الجماعة واستنكرت التسجيل للرئيس!.
وبرع بعض نشطاء الثورة في حرق شخصيات سياسية عدة، وتسريب أوراق، أو شهادات، أو محاضر رسمية، بهدف إدانتهم واغتيالهم معنوياً وإبعادهم تماماً عن الساحة، وعندما جرى تسريب مكالمات تكشف حقيقة علاقات هؤلاء النشطاء ببعضهم بعضاً وشخصيات وجهات أخرى غضبوا وتحدثوا عن دولة مبارك التي تعود، وعن مخطط لحرق رموز ثورة 25 يناير عمداً بفعل الثورة المضادة!
باختصار فإن حالة الفوضى التي ضربت مصر عقب الثورة جعلت فصائل وجماعات وتنظيمات وأحزاباً وأشخاصاً وجهات تقبل بالخروج عن كل قانون وعُرف ومخالفة القيم والأخلاق إذا كانت نتيجة إيجابية بالنسبة لها، حتى السب والقدح والشتائم كلها أمور مقبولة إذا وجهت إلى الغير، خصوصاً إذا كان هذا الغير منافساً، أو يتبنى موقعاً سياسياً مخالفاً. الاعتراضات لا تتفجر بسبب الخروج عن المألوف، والاحتجاج لا يكون بسبب استخدام الشتائم لغة والاغتيال المعنوي أسلوباً والفُجر في الخصومة سبيلاً وإنما كلها أمور مقبولة طالما تتجه نحو الخصوم!
الجدال حول حق الإعلام في كشف وبث ونشر تسجيلات أو أسرار الشخصيات العامة لم ولن يتوقف، ويحمل دائماً وجهات نظر متباينة، لكن هناك اتفاقاً على أن نشر الأسرار الشخصية محظور، وفضح المستور من خفايا الناس ممنوع.
ويبقى القضاء والمحاكم في كل دول الدنيا فيصلاً للحكم على تلك التصرفات، وما إذا كانت وسيلة إعلام خالفت القانون، أو أدت واجبها في نقل الحقائق وكشفها للناس. الأمر الآن في مصر يتجاوز موضوع حق الإعلام في نشر أو إخفاء أسرار شخصية أو ترويج التسريبات، إذ كانت الدولة نفسها استخدمت في عهد مرسي آليات غير آلياتها وقوى غير رسمية للتأثير في الخصوم السياسيين للرئيس، كما حدث عند حصار الإسلاميين المحكمة الدستورية، ومنع قضاتها من النطق بالأحكام في بعض القضايا، وكذلك حين حوصرت مدينة الإنتاج الإعلامي لإرهاب الإعلاميين وتخويفهم وتكميم أفواههم وإغلاق مصابيح استديواتهم. الآن هناك جدال على تسريب تسجيلات النشطاء ومكالماتهم، على أساس أن الدولة إذا كانت وجدت فيها ما يخالف القانون لكانت أحالته على النيابة المختصة وحاكمت أصحابها، وهذا أمر يتعين على النيابة التي تحقق في الموضوع الآن أن تكشفه، وأن تحيل على القضاء أي موظفين تثبت مخالفتهم القانون بالتسجيل أو التسريب. لكن القضية أكبر من ذلك، إذ أصبح كل فصيل يعتبر أن مصر دولته وليست دولة كل المصريين، ومنح لنفسه الحق في السطو على السلطة أو الاقتراب منها أو إقصائها بأي وسيلة، فالثورة رفعت الطموحات دون أن تمنح الإمكانات التي تحقق هذه الطموحات، وجعلت بعضهم يعتقدون أنهم أصحابها، وأن الحديث عن القانون عبث، وأن الأعراف تخاذل، والتزام الأخلاق انهزام.
حرب التسريبات لن تتوقف، فلا الدولة قادرة على أن تحافظ على هيبتها، أو أن تطبق القانون، أو أن تضبط الإيقاع السياسي، ولا رموز السياسة بمختلف مسمياتهم أو أطيافهم وانتماءاتهم وتحالفاتهم وولاءاتهم سيرضون بأن يشاركوا بقدر ثقلهم الحقيقي في المجتمع، فكل فريق يعتقد أنه الأثقل والأجدر والأقوى والأكثر تأثيراً بين الناس، ولا يسعى لكسب تأييد شعبي… وإنما بما يملكه من «مستمسكات» على منافسيه وقدرته في التسجيل للآخرين وكفاءته في تسريبها!
محمد صلاح/«دولة التسريبات»
12
المقالة السابقة