لا يمكن مجاراة مؤيّدي التفاهم المبدئي الذي توصلت إليه المجموعة الدولية 5 +1 والجمهورية الإسلامية الايرانية، وخصوصاً في العالمين العربي والاسلامي، في اعتبارهم أنه نتيجة حتمية لتفاهم نهائي حصل بين الولايات المتحدة والجمهورية المذكورة، وستكون له انعكاسات إيجابية جداً على مصالح الأولى وعلى مصالح الثانية ودورها، أو في اعتبارهم أنه تمهيد أكيد لتفاهم كالمشار اليه. ذلك أن ما تم التوصل اليه في جنيف، رسمياً على الأقل، يقتصر على الملف النووي الايراني الذي أثار الجدل والمخاوف في المنطقة والعالم. أما القضايا الخلافية الأخرى فلا بد أن يتم التعرّض لها لاحقاً، وبمفاوضات ثنائية أميركية – إيرانية تشارك في جوانب منها المجموعة الدولية المشار اليها أعلاه، أي بعد انتهاء مرحلة الأشهر الستة الأولى التي نص عليها التفاهم بتنفيذ الموقّعين عليه كل التزاماتهم، وبعد انتهاء مرحلة الأشهر الستة الثانية باتفاق ثابت يُقفِل الجانب الخلافي للملف النووي الايراني، ويفتح الباب أمام معالجة الخلافات الأخرى المهمة بدورها بين واشنطن وطهران. ولا يمنع ذلك أن يتطرق مسؤولون من العاصمتين، وعلى هامش اجتماعات “السنة النوويّة”، المتفق عليها، إذا جاز التعبير على هذا النحو، إلى خلافاتهما الأخرى في محاولة لتهيئة ظروف ومناخات ملائمة للبحث الجدّي في حلول لها.
لكن في الوقت نفسه لا يمكن مجاراة رافضي التفاهم المذكور أعلاه، وخصوصاً في العالمين العربي والإسلامي ايضاً، في اعتبارهم أن الحياة لن تُكتب له، لأن أحد طرفيه، أي ايران، ليست صادقة في العمل لتطبيع علاقتها مع المجتمع الدولي، وتحديداً مع الشيطان الأكبر الذي هو أميركا. فهي تناور وتكسب وقتاً من أجل إزالة العقبات من أمام استكمال تنفيذ مشروعها الإقليمي ومدِّ نفوذها أو سيطرتها على المنطقة. ذلك أن الانخراط في حوار مع “المستكبرين” حَظي، ولأول مرة، بمباركة من الولي الفقيه آية الله علي خامنئي. وقد ترجمها بحماية، بل برعاية، الرئيس المنفتح الشيخ حسن روحاني بعد تعرّضه إلى انتقادات من داخل النظام وتحديداً من أوساط “الحرس الثوري” والعلماء المتشددين. علماً أن ذلك يعكس ربما وجود مراكز قوى داخل المؤسسة الأقوى في النظام الاسلامي والحامية الوحيدة له، لها وجهات نظر مختلفة ومتناقضة. لكنه قد يعكس ايضاً توزيع أدوار ضروري جداً في مفاوضات مع أطراف (أعداء) كانوا دائماً شرسين في استهدافهم إيران. فإيران الاسلامية، التي كان قرارها التفاوض مع أميركا في وقت يلائمها وعدم الانجرار إلى حرب مباشرة معها، وجدت نفسها مضطرة إلى تقديم توقيت الحوار لأسباب عدة أبرزها ثلاثة، الأول، الأذى الكبير الذي سبّبته العقوبات الدولية المتنوعة للنظام وللشعب، والخوف من تسبُّبها بردود فعل شعبية سلبية في مرحلة ما. والثاني، إدراكها أن إنجاز مشروعها الإقليمي الطموح المتمثل في السيطرة على قلب العالم العربي وفي مدّ النفوذ إلى دول الخليج العربية لم يعد ممكناً رغم اقترابها كثيراً من ذلك قبل “الربيع العربي” وتحديداً قبل الثورة السورية.
والإدراك المذكور في محله لأن الأوراق الاقليمية التي كانت في يد إيران وقع بعضها أرضاً، ويتمزق بعضها حالياً، ويمرّ بعضها في حال من الاستهداف والتورّط. طبعاً قد يقول الرافضون ان استمرار التورط الإيراني الواسع عسكرياً وسياسياً في سوريا ولبنان والعراق دليل على صحة نظريتهم. لكن الواقعيين والعارفين يعتبرون ذلك مفاوضات على “الحامي” بين واشنطن وطهران. وهذا أمر ضروري في المرحلة الراهنة. فهل توصّل الأميركيون والايرانيون في مشاوراتهم على هامش المفاوضات النووية، وفي لقاءاتهم قبل انطلاقها في جنيف، إلى تفاهمات مبدئية حول قضايا خلافية إقليمية؟
المتابعون الأميركيون يعرفون تصميم ادارة الرئيس باراك أوباما على التوصل إلى تفاهم مع إيران، ويعرفون أيضاً خوف إسرائيل من إيران نووية، ويعتقدون أنها ستبقى تناور كي تصبح دولة مكتملة نوويتها رغم كل التفاهمات التي ستحصل. ويعرفون أخيراً أنها تستغل، وستستمر في استغلال نفوذها، داخل أميركا للضغط على أوباما كي يتخلى عن تصميمه المذكور أعلاه. لذلك فانهم يعتقدون أن الإدارة الأميركية عملت وتعمل لنزع مبرّرات الضغط عليها من إسرائيل وحلفائها الأميركيين وخصوصاً في الكونغرس. ومعلوماتهم تشير إلى أنها نجحت في الحصول على موقفين إيجابيين مبدئياً من إيران. الأول، عدم تجديد العلاقة مع “حركة حماس” الفلسطينية، وإن اضطرت الظروف المالية الأخيرة إلى العودة إلى أحضانها بعد قطعها معها. والثاني، تخلّي “حزب الله” اللبناني عن ترسانته الصاروخية الضخمة وفق تفاصيل يتم الاتفاق عليها لاحقاً.
سركيس نعوم/مفاوضات أميركا – إيران “على الحامي”؟
15
المقالة السابقة