عندما يشب أي حريق، فالعقلاء والأسوياء يبادرون إلى حصاره وإطفاء ناره، ووحدهم الحمقى والمجانين الذين يدعون إلى تأجيج ناره وتوسيع نطاقه. وأخشى أن يكون الصوت العالي والمسموع في مصر الآن لأولئك الأخيرين، الذين يلحون على الانتقام والتوسع في القمع والإسراع في عقد المحاكمات العسكرية ونصب المشانق وإهانة وإذلال المعتقلين والمشتبهين. هم أيضا الذين يشجعون على مهاجمة البيوت وتحطيم المحال التجارية وترويع كل من ينتسب إلى الشعب «الآخر»، الذي جرى ضم ناسه إلى فئة المنبوذين (للعلم المنبوذون في الهند يطلق عليهم اسم «شودرا» وعددهم نحو مليوني شخص، وهو للمصادفة نفس العدد المقدر لأعضاء جماعة الإخوان في مصر).
أدرى أن الكلام عن السياسة في مصر الآن من المكروهات بل المنكرات، باعتبار أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة التي تقودها الأجهزة الأمنية والسيادية. وهي التي صارت المصدر الأساسي لتشكيل الرأي العام، من خلال وسائل الإعلام، التي تحولت إلى ذراع لما يسمى بالتوجيه المعنوي التابع للمؤسسة الأمنية. والسياسة كما أفهمها هي التي تقدم العقل على العضلات وتتوسل بالحجة وليس بالهراوات، وتنتصر للمصلحة العليا للوطن قبل أي فصيل أو مؤسسة مهما كان سلطانها.
العقل والرشد الذي أدعو إلى الانحياز إليه لا يستصحب أي تهاون مع الإرهاب وأهله، لكنه يدعو إلى التعامل معه بكل حزم وشدة يقررهما القانون. وهذا الاحتكام للقانون يقتضي تحديد الجناة سواء كانوا محرضين أو فاعلين. وذلك جانب تختص به مؤسسات أمنية وقضائية، تنهض بمهمتها في ضوء الإجابة على السؤال من؟ ــ وفي هذه الحالة فإن العقلاء والراشدين من أهل السياسة والفكر والإعلام يتعين عليهم أن يجيبوا على أسئلة أخرى مهمة من قبيل: لماذا؟ وما العمل؟
هؤلاء العقلاء والراشدون لابد لهم أن يدركوا أن الأمن مهمة أكبر بكثير من أن ينهض بها جهاز الأمن وحده. وان الكلام عن إقامة الدولة البوليسية والحكومة العسكرية والعودة إلى قانون الطوارئ، هو منزلق خطر لا يعيد إنتاج دولة الاستبداد فحسب، ولكنه يفرغ الثورة من مضمونها، ناهيك عن أنه يفتح الأبواب على مصراعيه لتأجيج نار الحريق وتوسيع نطاقه.
أن أخشى ما أخشاه أن نكون بصدد الاستجابة لأصوات التصعيد والانفعال ودعاة إذكاء الحريق، بأكثر من الاستجابة لصوت العقل والرشد. ذلك أننا في حين ندعو إلى الحزم في التعامل مع الإرهاب من خلال المؤسسة الأمنية وجهات التحقيق والقضاء، نجد أن الجميع تحولوا إلى رجال أمن وقضاة. وفي حين أثبتت الأحداث أن ثمة قصورا في أداء أجهزة الاستخبار والتحري، نجد أن وسائل الإعلام تتسابق في تغطية تلك الثغرة الخطيرة وتتبرع بصرف الانتباه عن الخلل في أداء تلك الأجهزة.
إن من يتابع الصحف المصرية التي صدرت أمس يلاحظ أنها تنافست على التهييج والتحريض، وبعضها أرشد عن المتهمين وقام بالمحاكمة، وأصدر الحكم بالاستئصال والإعدام. وأن غطى ذلك الموقف الأمني، فلا استبعد أن يكون الإرهابيون الذين قاموا بتفجير مديرية أمن الدقهلية كانوا من أسعد الناس بذلك الأداء. على الأقل لأنه صرف الأنظار عنهم وحولها إلى غيرهم.
لقد ظل الخطاب السياسي والإعلامي يعبئ الرأي العام طول الأشهر الستة الأخيرة ضد شيطنة الآخر، الذي صار الإرهاب عنوانا عريضا له. وبعد كل الإجراءات التي اتخذت والثمن الذي دفع مقابلها، سواء في الضحايا الذين سقطوا أو الألوف الذين اعتقلوا، أو الشلل الاقتصادي الذي صرنا إليه، والأصداء السلبية التي ترتبت عليها، رغم كل ذلك فإننا اكتشفنا أن الإرهاب الحقيقي لا يزال طليقا وقادرا على أن يرتكب جرائمه ويصعد من مواجهته وتحدِّيه للمؤسسات الأمنية.
إن غاية ما أرجوه أن تقوم مؤسسات الأمن والتحقيق بدورها في تعقب الجناة وإحباط مخططاتهم ومحاسبتهم، وان ينهض الراشدون والعقلاء بدورهم في محاولة إطفاء الحريق وحصار نيرانه لإنقاذ الوطن مما هو أسوأ. صحيح أن الإرهاب الإعلامي نجح في ترهيب وإسكات أصوات الراشدين، لكننا لا نزال نعول على جرأة بعضهم وشجاعتهم في الدعوة إلى التمييز بين المعتدلين والغلاة في الساحة الإسلامية التي باتت تهمة الإرهاب لصيقة بها. علما بأن البلد لا يحتمل تفعيل هذه التهمة لكي يتحول الجميع إلى إرهابيين، لأن تلك هي الوصفة الناجحة لتوسيع نطاق الحريق وتحويل الحرب الأهلية الموهومة بين «الشعبين» إلى حرب حقيقية يكون الوطن ضحيتها الأولى. وما لم يرتفع صوت الراشدين، وما لم تسترد السياسة موقعها المغيب فإن مصر ستصبح مرشحة لأن تكون عراقا أخرى والعياذ بالله.