صغارا عندما علمونا التاريخ، عرفونا عن الامبراطورية العمانية العملاقة، التي ازدهرت في القرن الـ17، وامتد نفوذها من وسط إفريقيا غربا، حتى مشارف القارة الهندية شرقا، مسيطرة على أكثر من ثماني دول. كنا نتعجب أن هناك دولة عربية كانت لها كل تلك السيادة والعظمة، وعندما كنا نحن العرب مطمع سيطرة كل امبراطوريات العالم كان التاريخ يحدثنا عن فخامة العمانيين، فجلنا الفخر بعروبة عمان.
ومن عظمة التاريخ، كانت عظمة بَشَر عمان، ومن عظمة ومجد السلطان سعيد بن سلطان؛ مؤسس أركان الامبراطورية العمانية القديمة، إلى عظمة وفخر جلالة السلطان قابوس بن سعيد المغفور له ـ بإذن الله تعالى ـ مؤسس دولة عمان الحديثة. كنا صغارا عندما ربط أهالينا ذكر عمان (ببلد قابوس)، كنا صغارا عندما شاهدنا العظمة والفخامة تمشي على الأرض في صورة جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ وهو في زي السلاطين، فكانت طلته تذكرنا بعصور المجد العربي التليد.
صرنا كبارا وأكرمنا الله بالعيش على هذه الأرض المجيدة، بعدما كان يدركنا التاريخ، بتنا ندرك التاريخ نفسه على جغرافية هذا المكان، فشاهدنا أساطير حضارة، قد تكذبها مسامعنا لولا كنا شواهد وحضورا.. فمن رحم المجد التليد، ومن عظمة التاريخ، ومن رقي وسمو وفخامة أخلاق شعب عمان العظيم، كان قابوس وسيظل كائنا، ومن تراب هذه الأرض الطيبة نبت قابوس ليمتد جذورا راسخة، ويعلو أغصانا مثمرة، وستظل مثمرة.
امتد أجداده في الأرض فامتلكوا الجغرافيا وسطروا التاريخ، وجاء جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ بعظمة همة أجداده، فامتلك قلب العالم بأسره، لا بالأساطيل والسفن، بل بالسلام والحكمة، والتسامح والتآخي والتعايش. باتت سلطنة عمان دولة السلام تسعى إليه، وتعمل على تحقيقه، باتت مسقط مهبطا لكافة الوساطات، ومصدرا للعديد من مبادرات العالم وجولات التشاور وتبادل الرأي، باتت السلطنة المقصد لتقريب المواقف وتجاوز الخلافات، لذا كانت عضوا نشطا في كافة المنظمات الدولية والإقليمية، ودانت للسلطان قابوس ـ رحمه الله ـ جوائز العالم من جائزة السلام الدولية إلى جائزة لال نهرو للتفاهم الدولي.
لم يذكر في عهد هذا العملاق أية خلافات مع دول الجوار، أو أي دولة في العالم، ولم تعرف دبلوماسية السلام ازدهارا إلا بنهجه، ولم تسمُ السياسة إلى حد الشرف إلا برعايته، فكان صادقا وأمينا وشريفا في تعامله السياسي، وأحبه العالم، ومنح شعبه تأشيرة احترام تخترق كل الحواجز، وتعبر كل المتاريس.
لكن كان للمصريين حب آخر، عن صدق بكاه 100 مليون مصري، فلم يحتل حاكم عربي قلوبهم سوى هذا الرجل، ولم يعتصر الحزن قلوبهم إلا على هذا السلطان الجليل، لم يروا منه سوى المواقف النبيلة، فوقف معهم في حرب أكتوبر 1973، حيث أطلق مبادرة تاريخية، وأصدر مرسوما بالتبرع بربع رواتب الموظفين لدعم مصر، وإرسال بعثتين طبيتين عُمانيتين لجبهة القتال. وعندما أدار العرب ظهورهم لمصر، احتفظت سلطنة عمان بعلاقاتها كاملة، ذلك عقب زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس في العام 1977، وتوقيع اتفاقية معاهدة كامب ديفيد، التي نتج عنها مقاطعة عربية شاملة لمصر.
لكن ظل جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ على موقفه الداعم لمصر، التي تجمدت عضويتها في جامعة الدول العربية لمدة 10 أعوام، حتى عقدت قمة جامعة الدول العربية في «عمَّان» عام 1987، لتخرج بعدها قرارات كان أهمها إنهاء المقاطعة مع مصر، وإعادة العلاقات الدبلوماسية من جديد.
وعندما زار جلالة السلطان الراحل مصر 1982، خرجت مدينة الاسكندرية عن بكرة أبيها تستقبل وتحيي وتجل وتهتف لهذا السلطان العظيم، وتشكره على نبل أخلاقه، ودعمه وحبه لمصر.
وفي كلمته التي ألقاها جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله وطيب ثراه ـ بمناسبة العيد الوطني الـ14 للسلطنة في العام 1984 أشاد بدور مصر، قائلا: “ثبت عبر مراحل التاريخ المعاصر أن مصر عنصر الأساس في بناء الكيان والصف العربي، ولم تتوانَ يوما في التضحية من أجله والدفاع عن قضايا العرب والإسلام”.
وكما دعم جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ الرئيس أنور السادات عندما تخلى عنه العرب، قام جلالته بدعم الرئيس عبد الفتاح السيسي رغم الهجوم الشرس عليه عقب ثورة 30 يونيو، واستمرت السلطنة بقيادة جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ في مساندة مصر والوقوف بجانبها. وعندما قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بأول زيارة رسمية له للسلطنة في الرابع من فبراير 2018، حظي بحفاوة بالغة، واستقبال منقطع النظير، وتجول حينها مع جلالته في استعراض فخم وموكب مهيب.
إذًا.. لا عجب أن يقدسك شعبك، ولا استغراب أن يحبك العالم، ولا دهشة أن يجلك المصريون جميعا ويبكوك حزنا، وتنفطر قلوبهم عليك كمدا، لك السلام وعليك السلام الذي زرعته، يا خالد الذكر، يا عظيم الأثر… يا قابوس.
ليس حبيبكم وحدكم / فوزي رمضان
11