من «واحد من الناس» مناشدة خالصة -لوجه الله تعالى- إلى شخص واحد على الأقل في هذه المعمورة، أيا كان ذلك الآخر، المناشدة خاصة وعامة في آن واحد، ما دام ذلك القريب أو البعيد أخا بالدم أو العقيدة أو التراب، قائما بذاته على عظم يكسوه لحم، وفيه بَضعة تضخّ دما لونه واحد ما تغيّر منذ سيدنا آدم ومن بعده أنبياء الله نوح وإبراهيم وإسحق وإسماعيل، على اختلاف ألوان بشرة ذرياتهم، عليهم السلام أجمعين.
هذا نداء لكل صالح وصالحة يرومون الإصلاح ويرون الصلاح في أنفسهم، نداء ورجاء بأن أفلحوا بالمصالحة مع الذات أولا ومع الآخرين أيضا سيما ذوي القربى، ففي ذلك صحة وسعادة لا يعرفها إلا من سلمت صدورهم من الأمراض، وخلت ضلوعهم مما أتت به حكمة الصينيين القدماء بأن يا بني آدم «الحقد جثة فلا تجعلوا من قلوبكم مقابرا».
كثيرة هي الأشعار والخطابات التي تحصر العلاقات المجتمعية والاجتماعية، كالتواصل أو القطيعة وما بينها من درجات الجفاء، تحصرها بما هو سياسي أو عقائدي، لكن الأمور في أصلها فردية. الناس أحرار في الود أو الجفاء، المداراة أو الاستبعاد والإقصاء، لكن ليس على حساب ما يمس جوهر تلك العلاقات بحيث تصير القطيعة موضع استسهال سرعان ما تتحول إلى عدائية- لا تحمد عقباها- لا تبقى محصورة بين خلاف شخصين، بل تتجذر وتتوسع لا بل وتصبح قابلة للتوريث!
تتباين مواقف الناس من الخطايا والأخطاء، فلا تغفر ولا تنسى، لكن الأمر في ظل وسائل «الاحتراب الاجتماعي» صار ينحدر إلى مستوى الزلات العابرة، بما يظهر أن «القصة ليست رمّانة، القصة قلوب مليانة أو ورمانة»!
ببالغ الأسف والأسى، ظاهرة القطيعة أو بالأحرى «شطب الآخر» الذي نختلف معه، صارت أكثر تفشيا وتغلغلا وعلى نحو غائر يندى له الجبين في أوساط يبدو على ظاهرها أو يدعي بعضها التشبّث بالقيم الدينية والتقليدية المحافظة. ومما يزيد من ذلك الأسف والأسى ما يستشعر الناس الحرج في كشفه ولا أقول فضحه، حتى يعرف الناس حقيقة بعض الوجوه التي تظهر لناخبيها أو مسؤوليها أو شركائها في أي زمالة أو جيرة أو صداقة إنها قاطعة رحم، انسياقا وراء قطيع يقوده ذباب إلكتروني خارجي، أو دبابير إلكترونية دخيلة وليست بداخلية قطعا، فالجلافة والفظاظة ليست من قيم مجتمعنا الحي الشهم الأصيل.
أقل من أربع وعشرين ساعة وتدق ساعة منتصف آخر ليالي عامنا هذا. مناسبة كغيرها يحرص الانشقاقيون من معشر السفسطة والبلطجة اللفظية على منصات التهافت، يحرصون على ترحيل لائحتهم السوداء الاجتماعية، وهي في حقيقة الأمر سياسية أو مصلحية على نحو أدق- ترحيلها إلى عام جديد وبعضهم بلغت قطيعتهم عقودا على أتفه الأسباب!
الكثير من العدوانية الاجتماعية والجفاء منشؤه الهروب من مواجهة الذات والمشاكل الحقيقية لفرد معين، أو وسط أسري أو اجتماعي أو مهني بعينه. ما من دليل على ذلك أكثر من تلك الأحاديث والدردشات والسجالات الجمعية والجانبية في مناسبات يفترض أن تكون مكرسة لمشاركة «المعزّب» أحزانه أو أفراحه.
في مناسبة حزينة قبل سنوات طوال، كنت في مجلس عزاء وقد تناحر المعزين حول معركة مسلحة «فصائلية» شهدتها إحدى الساحات العربية لدرجة أخرجت المكلوم الصبور عن وقار صمته ووجع حزنه، فقام وقال: كفى.. هذا مجلس عزاء لا صالونا سياسيا!
إن كان من إيجابية في معرفة الجانب الشخصي لبعض الشخصيات العامة أو الخاصة، فهي في كشف الوجه الأخر أو الحقيقي لدعاة ما هم بقُضاة بل جُناة، يدّعون الشيء ويعملون نقيضه. قد يكون من المفيد تفعيل تلك الزاوية الصحفية التي كانت ترسل عبر معدّها العارف ببواطن الأمور إشارات مشفرة للمعنيين في العتاب، علها تحد من غلوّ البعض وتنزع عن البعض الآخر هالة ليسوا بمستحقيها. فأي خير يُنتظر من قاطع رحم أو عاق بالوالدين أو بأولاده، أو فاقد الوفاء لشريكة عمر صبرت عليه فقيرا وضعيفا قبل أن يصير «مهما» أو شخصية يشار إليها بالبنان. ليت الصحافة تشير في مناسبات التعيين والتكريم -من القطاعين العام والخاص- إلى شيء من الجوانب الشخصية، علها تعزز سِيَر الصالحين وتلفظ ولو تدريجيا أولئك الواجب إبعادهم عن الخدمة العامة أو الفضاء العام، حتى يصلح الله الحال بإصلاح حالهم أولا.
يا صالح.. صالح!* بشار جرار
2
المقالة السابقة
