تواجه الجامعات الأردنية، وبخاصة الجامعات الرسمية، تحدياً مالياً متراكماً يتمثل في مديونية متنامية باتت تُثقل كاهلها وتحدّ من قدرتها على الاضطلاع بدورها الأكاديمي والتنموي. هذه المديونية لم تنشأ فجأة، ولا يمكن ردّها إلى سبب واحد بعينه، بل هي نتيجة تراكمات طويلة لاختلالات بنيوية في منظومة التمويل، وارتفاع مطّرد في النفقات الجارية، وضعف في استثمار الموارد المتاحة، إلى جانب فجوة آخذة بالاتساع بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات الاقتصاد الوطني.
لقد أصبحت بعض الجامعات تعمل اليوم في هامش مالي ضيق، تجاوز في حالات عدة قدرتها الواقعية على السداد أو حتى المناورة، الأمر الذي انعكس على جودة التعليم، واستقرار الكوادر الأكاديمية، وثقة المجتمع بدور الجامعة بوصفها رافعة أساسية للتنمية. وفي المقابل، تصاعدت الضغوط على الخزينة العامة، في ظل غياب إصلاحات هيكلية داخل المؤسسات الجامعية توازي حجم التحديات المفروضة عليها.
المفارقة الصارخة أن جامعات يُنتظر منها أن تنافس إقليمياً وعالمياً، وأن ترفد الاقتصاد بالمعرفة والابتكار، ما تزال تعمل ضمن نماذج تمويل تقليدية، تعتمد إلى حد كبير على الرسوم الدراسية كمصدر شبه وحيد للإيراد، في وقت يتراجع فيه الدعم الحكومي المباشر مقارنة بتنامي الأعباء التشغيلية، ولا سيما كلف الرواتب والتقاعد والالتزامات الثابتة. ويضاف إلى ذلك استمرار برامج أكاديمية لم تعد تحقق جدوى تعليمية أو اقتصادية واضحة، وضعف في منظومات الحوكمة المالية، ومحدودية الاستثمار المؤسسي المنظم.
أمام هذا الواقع، تبرز ثلاثة مسارات محتملة للتعامل مع الأزمة، الأول هو الاستمرار في النهج القائم، وهو مسار أثبتت التجربة أنه يقود إلى مزيد من المديونية، وتآكل الجودة الأكاديمية، وتسارع هجرة الكفاءات، وهو بطبيعته غير قابل للاستدامة، أما الثاني فيتمثل في تدخل حكومي طارئ يخفف الضغوط مؤقتاً دون أن يمس جذور المشكلة، وهو خيار مكلف مالياً، ويعيد إنتاج الأزمة بأشكال مختلفة، ويثير تساؤلات حول العدالة في توزيع الموارد العامة.
المسار الثالث، وهو الأكثر واقعية وجدوى، يتمثل في إصلاح هيكلي متكامل، ينقل الجامعات من منطق إدارة الأزمة إلى بناء استدامة مؤسسية حقيقية. إصلاح يقوم على ربط جزء من التمويل بالأداء والنتائج، وترسيخ استقلالية مالية فعلية تقترن بمساءلة واضحة وشفافة، وتفعيل الاستثمار في الأصول المادية والمعرفية للجامعات، مع مواءمة البرامج الأكاديمية مع أولويات الاقتصاد الوطني وسوق العمل.
وعلى المدى القريب، لا بد من وقف التوسع غير المدروس في البرامج والتخصصات، وإجراء تدقيق مالي مستقل وشامل للجامعات الرسمية، ومراجعة بنود الإنفاق التشغيلي لإعادة ترتيب الأولويات بما يضمن الحد الأدنى من الكفاءة والعدالة. أما على المدى المتوسط، فيتطلب الأمر البدء التدريجي بتطبيق التمويل القائم على الأداء، وإنشاء صناديق استثمار جامعية تُدار بعقلية مهنية مستقلة، إلى جانب دمج أو إعادة توجيه البرامج محدودة الجدوى. وفي الأفق الأبعد، ينبغي أن تتجه الجامعات نحو نموذج الجامعة المنتِجة للمعرفة والقادرة على توليد قيمة مضافة، مع تعزيز استقلاليتها المؤسسية في مقابل مساءلة حقيقية، وتمكينها من القيام بدور فاعل كمحركات تنمية إقليمية.
ولا يمكن الحديث عن إصلاح مالي بمعزل عن كرامة المعرفة، فاستنزاف عضو هيئة التدريس مادياً ومعنوياً هو الكلفة الأعلى والأقل ظهوراً لأزمة المديونية. كما يظل سؤال العدالة حاضراً: إلى أي مدى يُعد منصفاً تحميل الجامعات تبعات قرارات سيادية تتعلق بالقبول أو الإعفاءات أو البعثات، دون توفير غطاء مالي يعكس هذه الالتزامات؟
إن حسم موقع الجامعة بين كونها مرفقاً خدمياً أو مؤسسة تنموية منتِجة ينعكس مباشرة على نموذج التمويل، وشكل الحوكمة، وطبيعة الشراكة مع الدولة والقطاع الخاص. فلم يعد معيار النجاح اليوم بعدد الطلبة أو اتساع الحرم الجامعي، بل بما تقدمه الجامعة من معرفة نوعية، وأثر بحثي ملموس، وخريجين يمتلكون قابلية حقيقية للتشغيل والابتكار.
إن معالجة مديونية الجامعات الأردنية لا تتحقق بسداد الأرقام فحسب، بل بإعادة تعريف دور الجامعة في الاقتصاد والمجتمع. فالجامعة القوية مالياً ليست نتيجة إجراءات محاسبية عابرة، بل ثمرة رؤية وطنية واضحة، وإرادة إصلاح حقيقية، واستثمار واعٍ في الإنسان والمعرفة.
