في زمنٍ تتسارع فيه الأزمات وتضيق فيه فرص العمل، يكثر من يبيع الوهم في ثوب الفرصة، ويَعِدُ الشباب بثراءٍ سريع عبر «العمل أونلاين»، مستغلًا حاجتهم وضيق الخيارات أمامهم. صفحاتٌ وحساباتٌ تتكرر، وشعاراتٌ تتشابه، ونهايةٌ واحدة غالبًا: خيبةٌ جديدة، وثقةٌ تُهدر، وصورةٌ مشوّهة عن العمل الرقمي الحقيقي.
ومع ذلك، فإن الحقيقة أبعد من هذا المشهد الضيق؛ فالعمل عبر الإنترنت لم يعد ترفًا ولا موضةً عابرة، بل أصبح جزءًا أصيلًا من شكل الاقتصاد الحديث. عالم الأعمال تغيّر، وانتقل بثقله إلى الفضاء الرقمي، حتى بات قول بيل غيتس:
«إذا لم يكن عملك على الإنترنت، فإن عملك سيكون خارج العمل»
أقرب إلى توصيفٍ للواقع منه إلى نبوءةٍ مستقبلية.
هنا، يصبح السؤال الحقيقي ليس عن العمل عبر الإنترنت بحدّ ذاته، بل عن النموذج الذي نختاره داخله. وفي هذا السياق، تبرز صناعة البيع المباشر بوصفها أحد النماذج القليلة التي نمت بهدوء، وتطوّرت بثبات، بعيدًا عن الضجيج والشعارات. صناعةٌ بدأت ملامحها الأولى عام 1945، ثم نضجت عبر عقودٍ من التنظيم والتجربة، حتى أصبحت اليوم قطاعًا عالميًا معترفًا به. ولم يتوقف هذا النضج عند حدود الممارسة العملية، بل امتدّ إلى الحقل الأكاديمي، حيث بدأ تدريس هذا التخصص في الجامعات الأمريكية منذ عام 1991، بوصفه أحد مسارات الأعمال المعاصرة.
ولا يثبت هذا النضج بالخبرة وحدها، بل تؤكده الأرقام أيضًا؛ إذ تشير البيانات إلى أن إجمالي مبيعات صناعة البيع المباشر خلال السنوات الخمس الماضية بلغ قرابة 850 مليار دولار، بمعدلٍ سنويٍّ يناهز 170 مليار دولار. أرقامٌ لا تعبّر فقط عن حجم السوق، بل عن استمراريته وقدرته على توليد الدخل في ظروفٍ اقتصاديةٍ متباينة.
وعندما ننظر إلى هذه المؤشرات من زاوية اقتصادٍ واعدٍ ومفتوح كالاقتصاد الأردني، تتضح الصورة أكثر؛ فهذه الصناعة تمثّل فرصةً حقيقيةً تستحق الالتفات الجاد؛ فهي قطاعٌ لا يحتاج إلى رؤوس أموالٍ ضخمة، ولا إلى بنى تحتيةٍ معقّدة، بقدر ما يحتاج إلى وعيٍ ومهارةٍ واستعدادٍ لبناء الذات خطوةً خطوة.
ومن هنا، لا يمكن ترك هذا المسار يتشكّل عشوائيًا أو يُختطف من قبل كياناتٍ وهمية، بل تبرز الحاجة الملحّة إلى دورٍ مؤسسيٍّ واضح. وعلى حكومتنا الرشيدة أن تنظر بجدّية إلى صناعة البيع المباشر كجزءٍ أصيلٍ من منظومة العمل الحديثة، خاصةً في وقتٍ سبقتنا فيه العديد من دول العالم بخطواتٍ كبيرة في تنظيم هذا القطاع واستثماره اقتصاديًا، بينما لا يزال التعامل معه محليًا محدودًا ودون إطارٍ واضح يواكب حجمه وإمكاناته الحقيقية، وأن تدعم هذا القطاع ضمن أطرٍ تنظيميةٍ وتشريعيةٍ واضحة، تفتح الباب أمام الشركات العالمية الجادّة للعمل من داخل الأردن، وتحمي الشباب في الوقت ذاته من الممارسات التي تسيء إلى هذه الصناعة وتشوّه صورتها.
وتزداد أهمية هذا القطاع حين ننظر إلى طبيعته الإنسانية؛ فهو لا يقف عند فئةٍ أو تخصصٍ، بل يتّسع لكل من تجاوز سنّ الثامنة عشرة، من الأكاديمي والطبيب والمهندس، إلى الحِرَفي والعامل وصاحب المهنة. معيار النجاح فيه ليس الشهادة ولا المسمّى الوظيفي، بل الجهد والانضباط والقدرة على بناء علاقاتٍ قائمةٍ على الثقة وتقديم قيمةٍ حقيقية.
كما أن هذه الصناعة أثبتت قدرتها على الصمود في وجه الأزمات، وعلى التعايش مع التحولات التقنية المتسارعة؛ فالذكاء الاصطناعي، رغم تأثيره في كثيرٍ من الوظائف، لا يُقصي هذا القطاع، بل يمنحه أدواتٍ جديدة، لأنه في جوهره يقوم على التواصل الإنساني وبناء الثقة، وهي عناصر لا يمكن أتمتتها.
أما على المستوى الفردي، فالدخول إلى هذا المجال يجب أن يكون قرارًا واعيًا لا اندفاعًا مؤقتًا. وأول ما ينبغي التحقق منه هو أن تكون الشركة عضوًا في إحدى منظمات البيع المباشر المحلية (DSA)، التابعة للاتحاد العالمي لشركات البيع المباشر (WFDSA)، إضافةً إلى التأكد من طول عمر الشركة وخبرتها، وتنوّع خدماتها ومنتجاتها، واعتمادها من جهاتٍ رقابيةٍ معترفٍ بها.
في النهاية، فصناعة البيع المباشر ليست وعدًا سريعًا بالثراء، ولا اختصارًا للطريق، لكنها مسارٌ واقعيّ لمن يريد أن يعمل بوعي، ويبني نفسه بثبات، ويدخل عالم العمل الرقمي من بابه الصحيح.
صناعة البيع المباشر: 850 مليار دولار لماذا لا نلتفت؟* الدكتور ايهاب العابودي
5
المقالة السابقة
