يأتي الحديث عن تحديث المنظومة السياسية في الأردن في سياق رؤية إصلاحية واعية، تنطلق من منجزات الدولة الأردنية وخبرتها التاريخية في ترسيخ الاستقرار وبناء المؤسسات، وتسعى إلى تطوير هذه التجربة وتعزيز قدرتها على مواكبة التحولات المتسارعة في الداخل والإقليم والعالم. فالتحديث هنا لا يُفهم بوصفه قطيعة مع المسار القائم، بل امتداداً طبيعياً له، يهدف إلى تعميق فاعليته وتجديد أدواته، بما يحفظ توازن الدولة ويعزز ثقة المجتمع ويصون مكتسبات الاستقرار.
ومن هذا المنطلق، فإن تحديث المنظومة السياسية في الأردن يتجاوز فكرة التعديل الإجرائي، ليصبح مساراً واعياً لتطوير العلاقة الإيجابية بين الدولة والمجتمع، علاقة قوامها الشراكة والتكامل بين الدور القيادي للمؤسسات الدستورية، وحيوية المجتمع في المشاركة وتحمل المسؤولية. إنها عملية ترسيخ لما هو قائم من عقد وطني متين، عبر فتح آفاق أوسع أمام المشاركة المنظمة، وتعزيز قنوات الحوار، وتوسيع دوائر الثقة المتبادلة بين المواطن ومؤسسات دولته.
إن جوهر هذا التحديث يتمثل في الانتقال من التركيز على فاعلية الإدارة إلى تعميق معنى المشاركة، بحيث يصبح المواطن شريكاً في صناعة المجال العام، لا مجرد متلقٍّ للقرار. فالدولة القوية لا تُقاس فقط بقدرتها على الضبط والتنظيم، بل بقدرتها على إنتاج مواطن واعٍ بدوره، يشعر أن صوته جزء من العقل الجمعي للدولة، وأن انخراطه في الحياة السياسية تعبير عن انتمائه لا عبء عليه.
وفي هذا الإطار، تبرز الثقافة السياسية بوصفها الركيزة الخفية لأي إصلاح مؤسسي. فالقوانين، مهما بلغت دقتها، تبقى محدودة الأثر إن لم تسكنها قيم الحوار، واحترام التعدد، والإيمان بأن الاختلاف في الرأي شرط للنضج لا تهديد للوحدة. إن تحديث المنظومة السياسية في الأردن يفترض ترسيخ ثقافة ترى في التوافق ثمرة للنقاش العقلاني، وفي الوحدة الوطنية حصيلة تنوع منظم لا تطابق جامد.
كما أن المؤسسات تشكّل العمود الفقري لهذا المسار. فالتحديث يعني تعميق منطق الدولة المؤسسية التي تقوم على قواعد عامة، وإجراءات شفافة، وكفاءة مهنية، بما يعزز شعور المواطن بعدالة النظام العام وقابليته للتوقع. إن الانتقال من الاعتماد على الأشخاص إلى ترسيخ قوة المؤسسات لا يلغي الدور القيادي، بل يمنحه استدامة ويجعله أكثر قدرة على التكيف مع تغير الظروف.
ولا يقتصر التحديث على البنية الرسمية، بل يمتد إلى المجال العام بكل فضاءاته: الإعلام، والجامعات، والمجتمع المدني، والمنصات الرقمية. فهذه المساحات هي التي يُصاغ فيها الوعي الجمعي، وتُبنى من خلالها الثقة، ويُدار فيها الحوار الوطني. وكلما كان هذا المجال مفتوحاً ومنظماً ومسؤولاً، ازدادت قدرة الدولة على استيعاب التعدد وتحويله إلى طاقة إيجابية في خدمة الصالح العام.
ومن هنا، لا تصبح المشاركة السياسية غاية شكلية، بل أداة لبناء الانتماء وتعميق الإحساس بالمصير المشترك. فالمواطن الذي يشارك في الأحزاب، وفي النقاش العام، وفي العمل المحلي، لا يمارس حقاً فقط، بل يساهم في إنتاج المعنى السياسي للدولة، ويعيد ربط الحرية بالمسؤولية، والحقوق بالواجبات، ضمن إطار وطني جامع.
وفي قلب هذا المسار، تبرز الحاجة إلى فكرة وطنية جامعة تشكّل الإطار الرمزي والمعنوي للتحديث. فكرة تستند إلى المواطنة بوصفها رابطة عليا تتجاوز كل الانتماءات الجزئية، وتؤكد أن التنوع في المجتمع الأردني مصدر قوة لا سبب انقسام. فكرة ترى في الأردن فضاءً للكرامة وتكافؤ الفرص، ودولة تتسع لجميع أبنائها على قاعدة العدالة والمساواة أمام القانون.
وتتجسد هذه الفكرة في مشروع وطني جديد لا يُختزل في برنامج حكومي مرحلي، بل في رؤية استراتيجية طويلة المدى تعيد وصل السياسة بالتنمية، والديمقراطية بالاستقرار، والإصلاح بالثقة. مشروع يقوم على ثلاث ركائز متكاملة: أولاً، دولة قانون ومؤسسات تُمارس فيها السلطة ضمن أطر دستورية واضحة، ثانياً، مواطنة فاعلة تجعل المشاركة جزءاً من الحياة اليومية لا موسماً انتخابياً عابراً، ثالثاً، تنمية شاملة تفتح آفاق الأمل أمام الشباب، وتربط العدالة الاجتماعية بالتماسك الوطني.
إن هذا المشروع لا يهدف إلى استبدال منجزات الدولة، بل إلى البناء عليها وتعميقها، عبر تطوير أدوات العمل السياسي وتوسيع دوائر الانخراط المجتمعي، بما يحصّن الاستقرار ويمنحه بعده المستقبلي. فالدولة التي تجدد آلياتها من داخل تجربتها، إنما تعزز قدرتها على الاستمرار وتؤكد ثقتها بذاتها وبمجتمعها.
وفي هذا المعنى، يصبح التحديث مساراً تاريخياً هادئاً، لا قفزة في المجهول ولا استجابة ظرفية، بل انتقالاً واعياً من مرحلة إلى أخرى، تحكمه الموازنة بين ضرورات الاستقرار ومتطلبات التطور، وبين حكمة التجربة وطموح الأجيال الجديدة. إنه جهد تراكمي يتطلب صبراً سياسياً، ووعياً مجتمعياً، وإيماناً بأن الإصلاح المستدام هو استثمار في أمن الدولة ومستقبلها.
في النهاية، فإن تحديث المنظومة السياسية في الأردن هو تعبير عن حيوية الدولة وقدرتها على قراءة لحظتها التاريخية، وعن ثقة متبادلة بين القيادة والمجتمع في أن التطوير المدروس هو الطريق الأمثل لتعزيز المنعة الوطنية. إنه مسار يعيد تعريف السياسة بوصفها مجالاً للشراكة في صناعة المعنى والمصير، ويجعل من الدولة مشروعاً أخلاقياً ومؤسسياً في آن، ومن المواطن شريكاً واعياً في بناء المستقبل الأردني.
محامٍ وخبير قانوني
yazan.haddadin@haddadinlaw.com
