نقر جميعاً أن عالمنا يعيش فوق صفيح ساخن من الصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية الطاحنة، وهو ما يجعله أيضاً في أشد الحاجة لالتقاط الأنفاس والبحث عما ينفع الناس ويحقق مصالحهم وأمنهم الصحي والغذائي والمهني والتعليمي. وهذا لا يمكن تحقيقه بمعزل عن التضامن والتعاون والتكافل الإنساني.
من هنا تأتي أهمية الاحتفال باليوم العالمي للتضامن الإنساني في 20 من ديسمبر سنوياً، منذ أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005، لتعزيز الوعي بأهمية التضامن الإنساني ودوره في تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر. هذا اليوم فرصة ذهبية لدعم كافة الجهود الإنسانية والتنموية والتعاون الدولي لتحقيق التنمية، والاحتفاء بوحدة الإنسانية في إطار من التنوع. وهو فرصة للمشاركة في أعمال التطوع ودعم المبادرات المجتمعية وحث الحكومات على تعزيز التزاماتها الدولية بحق الفقراء والمنكوبين من الصراعات والحروب والكوارث الطبيعية في شتى بقاع الأرض.
لا أحد ينكر حقيقة أن الرأسمالية المتوحشة قد عصفت بكيان الشعوب ودمرت أحلام البسطاء في العالم، وقضت تقريباً على الطبقة المتوسطة إلى الحد الذي يمكن القول معه أنه لم يعد من هذه الطبقة إلا القليل، بعدما سحقت الطبقات الفقيرة تحت سطوة الكيانات الاقتصادية الكبرى، فارتفعت رقعة الفقر في كثير من البلدان، خاصة في مناطق النزاعات والحروب والكوارث الطبيعية.
لكن هذا التضامن الأخلاقي الوجداني، الذي تحث عليه فطرتنا وشرائعنا، لن يبلغ مداه ولن يحقق غايته ما لم يتحول من مشاعر تعاطف إلى فعل مؤسسي منظم، ومن ردود أفعال مؤقتة إلى سياسات هيكلية عادلة. إن مواجهة “الرأسمالية المتوحشة” وتبعاتها تتطلب أكثر من الإغاثة؛ فهي تتطلب مراجعة جذرية للنظام الاقتصادي الدولي الذي يكرس الفوارق، من خلال آليات التجارة غير المتكافئة، وأعباء الديون الخارجية الخانقة على الدول الفقيرة، وهيمنة الشركات عابرة القارات التي تضع الربح فوق كرامة الإنسان وسلامة الكوكب.
كذلك، فإن التضامن مع ضحايا الصراعات لا يعني فقط إرسال المعونات بعد اندلاع الحروب، بل منع اندلاعها من الأساس عبر معالجة جذورها من خلال العدالة السياسية والإنصاف في توزيع الموارد، ووقف تجارة الأسلحة التي تغذي نيران الحروب، ودعم الحلول السياسية الشاملة التي تحقق مصالحة حقيقية وليس انتصاراً لفصيل على آخر. كما أن التضامن مع متضرري الكوارث الطبيعية، مثل فيضانات غزة أو جفاف القرن الأفريقي، يجب أن يعترف بحقيقة مفادها أن هذه الكوارث قد أصبحت أكثر عنفاً وتكراراً بسبب أزمة المناخ العالمية، والتي تتحمل فيها الدول الصناعية الكبرى النصيب الأكبر من المسؤولية التاريخية. لذلك، يجب أن يترجم التضامن إلى التزامات ملموسة من هذه الدول بتمويل مشاريع التكيف المناخي والتعويضات في الدول الأكثر تضرراً والأقل مساهمة في الأزمة، وهو ما يعرف بـ “العدالة المناخية”.
وهنا يأتي الاحتفاء باليوم العالمي للتضامن الإنساني ليذكرنا بحقيقة أن الإنسانية لا تزال تحمل في داخلها كوامن الخير وقيم الرحمة والتعاون والتضامن، وأن هذه الخيرية قد تغفو لكنها لا تموت، وقد تفتح الباب لاستعادة كل أشكال الخير لبني الإنسان ومساعدته ونجدته في الأزمات.
في هذا اليوم، يجب أن تستعيد الشعوب والحكومات قيم العدالة الاجتماعية وتفعيلها على أرض الواقع، ببذل المزيد من الجهود الحكومية والأهلية لمكافحة الفقر ودعم التنمية البشرية للقضاء على البطالة وصون الكرامة الإنسانية.
ولكي لا يظل التضامن مجرد أمنية أو شعاراً مؤثراً، فإنه يحتاج إلى ترجمة عملية على جميع المستويات:
على مستوى الأفراد: يمكن أن يبدأ التضامن من الباب المجاور، بمساعدة الجار المحتاج، والتطوع في مؤسسة خيرية محلية، والاختيار الواعي لمنتجات “التجارة العادلة”، والترويج لقضايا إنسانية عبر وسائل التواصل بمسؤولية. إن تبرعاً صغيراً عبر منصات التمويل الجماعي الموثوقة يمكن أن يجمع ليشكل فرقاً كبيراً في حياة أسرة في منطقة نزاع.
وعلى مستوى المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية: يتجلى التضامن بتعزيز التعاون الشبكي بين الجمعيات، وتبادل الخبرات، وخلق مبادرات تنموية مستدامة تولد دخلاً وتوفر فرص عمل، بدلاً من الاكتفاء بالإغاثة المؤقتة. كما أن للقطاع الخاص مسؤولية اجتماعية يمكن من خلالها توجيه جزء من الأرباح لدعم مشاريع التنمية البشرية والتعليم والصحة في المجتمعات المحرومة.
و على مستوى الحكومات: يجب أن يتحول التضامن إلى سياسة خارجية واستراتيجية تنموية. وهذا يعني الوفاء بالتعهدات الدولية مثل تخصيص 0.7% من الدخل القومي الإجمالي للمساعدة الإنمائية الرسمية، ومراجعة سياسات الهجرة واللجوء لجعلها أكثر إنسانية، والضغط الدبلوماسي من أجل وقف الانتهاكات في مناطق النزاع، واعتماد سياسات ضريبية واجتماعية داخلية تقلل الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
يتبع…
