عروبة الإخباري –
ليست الكتابة عند عَنان محروس فعلًا عابرًا، ولا ممارسة جمالية محضة، بل هي قدرٌ إبداعيٌّ يتشكّل من وعيٍ عميق بالإنسان، ومن إحساسٍ صادق بثقل الكلمة ومسؤوليتها. منذ السطر الأول، يدرك القارئ أنه أمام صوتٍ أدبيٍّ مختلف، لا يساوم على المعنى، ولا يهادن الفراغ، بل يذهب مباشرة إلى جوهر التجربة الإنسانية بكل ما تحمله من هشاشة وقوة، انكسار ونهوض.
تطلّ عَنان محروس على المشهد السردي بهدوء الواثقين، وبحضور من يعرف طريقه جيدًا. لا تُكثر من الضجيج، ولا تتوسّل الإدهاش، لأن نصوصها قادرة وحدها على أن تقول ما يجب قوله. إنها كتابة تنبع من الداخل، وتُصاغ بعناية فنية عالية، فتمنح القصة والرواية بعدًا إنسانيًا يتجاوز حدود الحكاية إلى فضاء التأمل والأسئلة الكبرى.
في زمنٍ تتشابه فيه الأصوات وتبهت فيه المعاني، تبرز عَنان محروس كاسمٍ أدبيٍّ له بصمته الخاصة، وملامحه الواضحة، ورؤيته التي لا تخطئها العين. فهي قاصة وروائية استطاعت أن تصنع لنفسها موقعًا مميزًا في خارطة السرد، لا عبر التكرار أو الاستسهال، بل عبر الاشتغال العميق على الإنسان بوصفه جوهر الحكاية ومركزها.
تكتب عَنان محروس وكأنها تنقّب في طبقات الروح، تستخرج ما خفي، وتعيد صياغته بلغة شفافة وقادرة على النفاذ. لا تكتفي بسرد الحدث، بل تحيطه بسياقه النفسي والاجتماعي، فتمنحه عمقًا يجعل القارئ شريكًا في التجربة، لا متلقيًا سلبيًا لها. في نصوصها، يتحوّل الصمت إلى معنى، والتفاصيل الصغيرة إلى إشارات كبرى، واللحظات العابرة إلى مفاصل وجودية.
ما يميّز أسلوبها السردي هو ذلك التوازن الدقيق بين جمال اللغة وصدق الفكرة. لغتها مشغولة بعناية، أنيقة دون تكلّف، شاعرية دون إفراط، وقادرة على الانتقال بسلاسة بين الوصف والتأمل، وبين السرد والحوار الداخلي. إنها لغة تحترم القارئ، وتثق بذكائه، وتدعوه إلى القراءة المتأنية لا الاستهلاك السريع.
شخصيات عَنان محروس ليست كائنات ورقية، بل نماذج إنسانية نابضة بالحياة. نراها تتصارع مع ذاتها، مع المجتمع، مع الذاكرة، ومع الأسئلة الكبرى التي لا إجابات جاهزة لها. هي شخصيات تحمل ضعفها وقوتها في آنٍ واحد، وتتحرّك داخل النص بصدق يجعل القارئ يشعر أنه يعرفها، أو ربما يشبهها.
وفي القصة القصيرة، تُظهر عَنان محروس براعة لافتة في التكثيف والاقتصاد اللغوي، حيث تلتقط اللحظة الحاسمة وتبني حولها عالمًا كاملًا في مسافة محدودة، دون إخلال بالبناء أو المعنى. أما في الرواية، فتتّسع رؤيتها السردية، وتُحسن إدارة الزمن، وتفكيك العلاقات الإنسانية المركّبة، وربط الخاص بالعام، والذاتي بالجمعي.
تحمل كتاباتها شجاعة واضحة في الاقتراب من المناطق الحسّاسة في النفس الإنسانية، ومن المسكوت عنه اجتماعيًا، لكنها تفعل ذلك بوعي فني وجمالي، بعيدًا عن المباشرة أو الخطاب الوعظي. إنها تكتب عن الألم دون ابتذال، وعن الوجع دون استعراض، وعن الأمل دون إنكار للواقع.
ولا يمكن الحديث عن عَنان محروس دون التوقف عند صدقها الإبداعي. فهي تكتب لأنها تؤمن بأن الأدب مسؤولية، وبأن الكلمة قادرة على أن تكون فعلًا إنسانيًا مؤثرًا. هذا الصدق هو ما يمنح نصوصها ذلك الأثر العميق، ويجعلها قابلة للبقاء في الذاكرة، لا مجرد عبورٍ عابر في زحام النصوص.
إن تجربة عَنان محروس تُعدّ إضافة حقيقية للمشهد السردي العربي، بما تحمله من خصوصية صوت، ونضج رؤية، ووعي فني متقدّم. ومع كل نص جديد، تؤكّد أنها ماضية في مشروع إبداعي واضح، يراهن على العمق، والإنسان، وخلود الكلمة.
عَنان محروس ليست مجرد كاتبة تروي الحكاية، بل صوتٌ أدبيٌّ يكتب الإنسان، ويمنح للوجع معنى، وللكلمة حياة.
