كتب سلطان الحطاب-
لو كان الشاعر محمود درويش حيّاً، لأعاد قصيدته، “بين ريتا”… وكتب بين غزة وعيوني بندقية…
ولكن لماذا تترك غزة على الصليب عشية عيد الميلاد، ولم يترك النازيون الاسرائيليون فيها كنيسة واحدة تقرع الأجراس بعد أن دمروا كنيسة من أقدم الكنائس في العالم، وهي كنيسة القديس برفيريوس، وهي كنيسة ارثوذكسية في حيّ الزيتون، كنت زرتها عام 1996، بعد مقابلة الرئيس عرفات، وذكرها لي وهي أقدم كنيسة في غزة ومنسوبة الى القديس برفيريوس، الذي دفن فيها وقبره موجود في الزاوية الشمالية الشرقية للكنيسة، ويطلق عليها الغزازوة اسم كنيسة المقبرة، لوجود كنيسة الروم الارثوذكس المحيطة بها، وهي عبارة عن مقبرة مسيحية، وقد مثلت الكنيسة رمزاً للسلام والتعايش بين الديانات، وقد تعرضت للتدمير عدة مرات نتاج الهجمات الاسرائيلية على غزة، وما زلت احتفظ بالصور التي التقطتها وقد ضمنت بعضها في كتابي عن غزة، الذي رعاه نبيل الصراف وعنوانه (غزة ماذا يقول التاريخ) وحين كنت أخرج من عند الرئيس عرفات قال لي، لا تنسى طالما انت مهتم وموجود بغزة أن تزور ضريح جد الرسول، هاشم بن عبد مناف، والضريح هدمته اسرائيل تماماً، في هجومها المتصل على غزة بعد السابع من اكتوبر 2023، وسوته بالأرض، وقد كنت صليت في الضريح الذي يحمل اسم هاشم بن عبد مناف القرشي المغطى بقطيفة خضراء، وكان الضريح الذي اصبح مزارا مليئاً بالزوار، وقد سميت غزة منسوبة الى هاشم ولهذا سميت غزة هاشم، وهي أول مدينة يصلها الاسلام في فلسطين من الجزيرة وأول مدينة تاجرت معها مكة لقربها، وقد زارها في تجارة هاشم بن عبد مناف وأقام فيها وتوفي وضريحه كان شاهداً قبل دماره، كما زارها من بعده ابنه، عبد الله والد الرسول، ومرض فيها وعاد ليتوفى في مكة، وعلى نفس الطريق، مضى محمد بن عبد الله، قبل النبوة، وكان عمره 22 عاماً بزيارة غزة في تجارة لزوجته، خديجة بنت خويلد، ومعه مرافقه ميسرة، ثم عاد محمد بن عبد الله لزيارة غزة مرة أخرى وعمره 24 سنة، واقام فيها لبعض الوقت، حيث استبدل تجارته فيها، فيما اسما رحلة الشتاء والصيف، إذ كان يأتيها في الصيف، وفيما بعد وحين كان عمره 40 سنة، وقد تنزل عليه الوحي، ظل يذكر عسقلان وغزة وانهما من اعظم بلاد الله وأعظم مكان في الدنيا وأخذت غزة شهرتها، ولكن هذه الزيارات لا بد أن يعتني بها المؤرخون المعاصرون لما لذلك من دلالات وان يبرزوها بشكل أفضل .
وهاشم هو لقبه أخذه لكرمه ولأنه كان يهشم (يفت) … لضيوفه الثريد وهي عادة ما زالت متبعة عند عشائرنا في الأردن، وفلسطين واسم هاشم الحقيقي عمرو وقيل أنه كان مع اصحابه في تجارة في غزة، وقد التقى بهم وشكا حالته الصحية، فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه في غزة وضريحه يقع في حي الدرج في المنطقة الشمالية لمدينة غزة القديمة ويبعد عن المسجد العمري الذي هدمه الاحتلال ايضاً مسافة كيلو متر واحد وتبلغ مساحته 2371 متراً مربعاً وفي أقبية عديدة وتغطي قاعة الصلاة الواسعة المربعة ويضم 3 أروقة للصلاة يتوسطها صحن مربع مفتوح.
حين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم غزة، قال لأصحابه، (ابشركم بالعروسين، غزة وعسقلان، )وكان قد مشى في الرمل في يوم قائض، فأحرق الرمل قدميه، فقال، (لولا رمل بين غزة وعسقلان، لعبتُ الرمل)، وكان هاشم بن عبد مناف، قد جاء الى غزة من سوريا في رحلة تجارة متصلة ووصلها عام 497 م، وكانوا يسمون فلسطين آنذاك، بريما، وهو اسم من اصل يوناني.
وغزة ايضاً هي مسقط رأس الامام الشافعي الذي اتخيله ينادي على اتباعه بفك أسرها وإطعامها وسقيها ، وهي تغرق وتموت وتنادي المعتصم، وتستذكر الشاعر عمر أبو ريشة، “أمتي هل لك بين الأمم… منبر للسيف ام للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق خجلا من امسك المنصرم
لقد أحبها الامام الشافعي، واسمه محمد بن ادريس الشافعي المولود عام 767 م، 150 هجري، والذي توفي في مصر دون أن يتجاوز الستين من عمره، وهو صاحب كتاب (الأم) الشهير في الفقه، ونحن في الأردن وفلسطين وبلاد الشام، على مذهبه (الشافعي).
ولد واقام في غزة وتزوج فيها وأحبها وافتى في اسطواناتها، “الاسطوانة عمود المسجد، حيث يضع المعلم في الشرح ظهره اليه” وقد ولدت له ابنته التي اسماها آسيا، وتركها في غزة وحين غادر غزة الى مصر لنشر مذهبه ثم الى اليمن وجنوب عُمان (جبال ظفار وصلالة) حيث انتشر مذهبه تذكر غزة، وذكرها في شعره ، وقال، وأني لمشتاق الى أرض غزة….
وان خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها
كحلت به من شدة الشوق اجفاني.
وكان الشافعي الذي زار مكة وهو في بطن أمه التي حجت به ينظر بعين الغيب، حين قال وهو يضرب المثل على تغيير الأحوال، واختلاف موازين القيمة
والأمام الشافعي صاحب القول، لا تأسفن على غدر الزمان،
لطالما، رقصت على جثث الأسود كلاب
وهو القائل، أيضا، نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا.
ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا.
أما غزة التي زارها الرسول، صلى الله عليه وسلم، والتي ولد فيها الامام الشافعي، فقد بقيت أمام الموت والعدوان وحيدة مصلوبة جائعة غارقة في الماء والوحل، يموت أطفالها على مسمع ومرأى العالم، وقد صمت العالم عنها وانصرف واعطاها وعوداً وكلاما في حين تمثل اسرائيل بعدوانها وحرب ابادتها في جثتها فتقتل الطفل والمرأة والشاب، وكل من يستهدفه سلاحها وتهدم بيوتها وتمنع عنها المساعدات، فإلى متى أيها الامام؟
