عروبة الإخباري –
العرب كتبت الإعلامية حنان مبروك –
اكتشفت صدفة أن هناك يوما عالميا للتأمل، هو يوم الحادي والعشرين من ديسمبر لكل عام، لكنه ينحاز أكثر للتأمل عبر اليوغا والتقنيات القادمة للعالم من الثقافة الهندية، على حساب غيرها من الثقافات.
يتحسس البعض من كلمة التأمل، يربطها مباشرة بجلسات التنمية الذاتية، التي تستهدف النساء خاصة، تجمعهن في قاعات كبرى، تأخذ منهن مبالغ كبيرة لتعلمهن الجلوس بأعين مغمضة ويرددن “أنا جميلة، أنا ناجحة، أنا ثرية، أنا أستحق”، وفي الحقيقة تبدو للناظر وكأنها تقول له “أنا غبية”. لكن التأمل معناه أشمل، يكفي أنه ارتبط منذ فجر التاريخ بالوجود الإنساني.
التأمل لم يكن يوما حكرًا على الأنبياء أو الفلاسفة أو المتصوفة، بل هو ممارسة إنسانية مارسها البشر قبل تشكّل الأديان والعلوم، ممارسة رافقت تطورهم الطبيعي، واستكشافهم للحياة حولهم.
في لحظات الصمت كان الإنسان يحاول فهم الكون، وتفسير الظواهر، وطرح الأسئلة الكبرى حول الحياة والمصير والمعنى، وبلحظات التأمل الصامت تلك وصل الإنسان إلى كل اختراعاته واستنتاجاته، عرف نفسه وعرف الدنيا.
في الحضارات القديمة شكّل التأمل أساسا للمعرفة الروحية والفكرية، حيث ارتبط بالطبيعة ودوراتها وبقوى الغيب. ومع تطور الرسالات السماوية انتقل التأمل من البحث الفلسفي إلى الفعل التعبدي الواعي الذي يربط الإنسان بخالقه. وقد جسّد الأنبياء هذا المعنى بأوضح صوره، فكانت حياتهم مليئة بلحظات الخلوة والتفكر العميق.
أشهر من تأمل هو نبي الله إبراهيم الذي نظر في ملكوت السماوات والأرض، باحثًا عن الحقيقة المطلقة، حتى بلغه النبأ اليقين. كما اعتزل النبي محمد الناس في غار حراء، متأملا في حال البشر والكون، في زمن طغت فيه الجاهلية، فجاءه الوحي ليحوّل هذا التأمل إلى رسالة إنسانية عالمية.
في العصر الحديث، ومع تسارع وتيرة الحياة وطغيان التكنولوجيا، تراجع حضور التأمل في حياة الإنسان اليومية. أصبح الفرد مسجونا في الضجيج البصري والسمعي، انتباهه مشتت هنا وهناك، وقته لم يعد ملكه، فهو إذا تأمل في سقف غرفته قبل أن ينام آخر الليل يكون قد حقق إنجازا كبيرا.
انتباه البشر اليوم مركز على الخارج، لكنهم يتأملون ما لا يجب تأمله، ينظرون في مشاحنات العمل، خيانات الأزواج، علاقات الحب الاستعراضية على السوشيال ميديا، شجارات نجوم الفن، لا أحد يتأمل في الوجود، ومن لا يفهم الوجود بنفسه لن يكون له وجود يذكر، والإنسان الذي لا يتأمل يفقد تدريجيًا علاقته بنفسه، فيعيش حالة من التشتت الداخلي، ويصبح أقل وعيًا بمشاعره، وأقل إدراكًا لتأثير أفعاله على محيطه.
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا الغياب عن البصيرة الداخلية، حين قال الله تعالى: ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾، في دعوة واضحة وصريحة لتأمل الإنسان في نفسه، لا بوصفه كيانا ماديا فقط، بل معجزة متكاملة تجمع الجسد والعقل والنفس والروح.
بعض البشر أيضا يمارسون صوم زكريا ومريم، وهو صوم عن الكلام مع البشر، الاكتفاء بالتأمل في صوت النفس، والعقل الذي لم يتأمل سابقا أو اعتاد الضجيج، لن يتقبل الأمر بسهولة بل سيدخل صاحبه في توتر كبير خاصة لو كان صاحبه مدمنا على الدوبامين السريع الذي تفرزه متابعة السوشيال ميديا، هذه مرحلة عظيمة من التأمل، يصمت فيها الإنسان عن التواصل مع البشر، لا يمسك هاتفا ولا يقرأ كتابا ولا حتى صحيفة، يكتفي فقط بقلم ومفكرة، يصلي وينظر في الأفكار التي تتبادر إلى ذهنه.
التأمل كان ولا يزال ضرورة، حيث تشير دراسات حديثة إلى أن لحظات الصمت والتفكر تساعد على تحسين الصحة النفسية، وزيادة التركيز، وتعزيز الوعي الذاتي. كما يساهم في إعادة بناء علاقة الإنسان بالعالم من حوله. إنه دعوة مفتوحة للتوقف، للنظر إلى الداخل قبل الخارج، ولإعادة اكتشاف معجزة الإنسان كما أرادها الله؛ كائنا واعيا، متفكرا.
