عروبة الإخباري –
الدكتورة رويدا الرافعي، ليست فنانةً تمرّ في المشهد التشكيلي اللبناني، بل حدثٌ ثقافيٌّ مكتمل الأركان، يشبه الزلازل الهادئة التي لا تُسمَع ضجّتها، لكن لا شيء بعدها يبقى في مكانه، هي من أولئك القلائل الذين لا يرسمون لأنهم يحبّون الرسم، بل لأن التاريخ يطالبهم بالشهادة، ولأن اللون عندهم لغةٌ أخطر من الكلام.
في زمنٍ انكسر فيه المعنى، وتهشّمت فيه السرديات الكبرى، اختارت الرافعي أن تقف في المنطقة الأصعب: منطقة الفن الذي يعرف، ويفضح، ويصمت ببلاغة.
اللوحة كقدر، لا كمهنة
منذ لحظة التكوين الأولى، لم تكن اللوحة عند رويدا الرافعي سطحًا أبيض، بل ساحة مصير. كل عمل تشكيلي هو مواجهة: بين الذاكرة والنسيان، بين الجرح والتجميل، بين ما يُقال وما لا يُحتمل قوله. هي لا تدخل اللوحة لتزيّنها، بل لتخوض فيها معركة وجودية، تخرج منها الألوان مثقلة بالمعنى، والخطوط مكسورة كما الأرواح التي تمثّلها.
لا شيء بريئًا في أعمالها.
حتى الصمت عندها مُدان، وحتى الفراغ مشغول بأسئلة لا تُرى.
أسطورة اللون: حين يتحوّل البصر إلى فكر، اللون في تجربة الرافعي ليس إحساسًا، بل موقف فلسفي، إنه ذاكرة مضغوطة، تاريخ متحوّل، ونبض جمعيّ مكسور.
الأحمر ليس دمًا، بل قرارًا، الأزرق ليس أفقًا، بل قلقًا طويلًا، والأسود… ليس ليلًا، بل عمق الوعي حين يبلغ أقصى درجاته.
هي لا تضع اللون، بل تستدعيه، كما تُستدعى الأساطير القديمة حين تحتاج الأمم إلى تفسير جراحها.
الفن والسياسة: حين يرفض الجمال أن يكون محايدًا
رويدا الرافعي من الفنانين الذين فهموا مبكرًا أن الحياد الجمالي خيانة ناعمة. لكنها، في الوقت نفسه، ترفض أن يتحوّل الفن إلى منشور أو شعار. لذلك اختارت الطريق الأخطر: فنٌّ سياسيّ بلا هتاف، ملتزم بلا دعاية، ثوريّ بلا ضجيج. لوحاتها لا تصرخ، لكنها تُربك.
لا تُدين مباشرة، لكنها تجعل الإدانة حتمية.
وهنا تتقاطع تجربتها التشكيلية مع مشروعها البحثي، حيث لا تكتب عن الفن من الخارج، بل من داخله، كمن يشرح الجرح وهو ينزف. دراساتها ليست نقدًا وصفيًا، بل تشريحًا ثقافيًا لعلاقة الفن بالسلطة، بالحدث، بالتحوّل، وبالإنسان المأزوم في المشرق العربي.
الأكاديمية التي حوّلت التعليم إلى مقاومة
في قاعات الجامعة، كما في محترفها، لا تُدرّس الرافعي الرسم، بل تدرّس الشك.
تشكّك في الجاهز، في المستعار، في الجميل السهل.
تؤمن أن الفنان الذي لا يطرح أسئلة خطيرة، هو مجرّد تقني ماهر.
لهذا خرّجت أجيالًا لا تشبه بعضها، لأن مشروعها التربوي قائم على فكرة واحدة:
الفن الحقيقي لا يُنسَخ، بل يُستخرَج من العمق.
الحضور الأسطوري: قوة بلا استعراض
رويدا الرافعي لا تملأ المشهد بضجيجها، بل بثقلها.
هي من أولئك الذين إذا غابوا شعر المكان بنقصٍ غامض، وإذا حضروا شعر التاريخ بأنه مُطالَب بأن يكون دقيقًا.
لا تساوم على المعنى، ولا تُخفّف حدّة رؤيتها لتناسب السوق أو الذائقة السهلة.
إنها تمثّل ذلك النوع النادر من الفنانين الذين لا ينتمون إلى الموضة، بل إلى الزمن الطويل.
الفن حين يصير أسطورة حيّة
تجربة الدكتورة رويدا الرافعي ليست مسارًا فنيًا، بل ملحمة وعي.
ملحمة تقول إن الفن ما زال قادرًا على أن يكون معرفة، وذاكرة، ومقاومة جمالية ضد التفاهة، والنسيان، والتسطيح.
هي لا ترسم العالم كما هو، ولا كما يجب أن يكون، بل كما يؤلم أن يكون.
ولهذا، ستبقى أعمالها شاهدة، لا على زمنٍ واحد، بل على قدرة الإنسان على أن يحوّل الخراب إلى معنى، واللون إلى أسطورة، واللوحة إلى مصير.
