يشهد الاقتصاد العالمي مرحلة بالغة الحساسية، تتداخل فيها الطفرة التكنولوجية مع اختلالات مالية عميقة، ما يعيد إلى الواجهة مخاوف حدوث أزمات اقتصادية ومالية كبرى. فتحذير رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي من “ثلاث فقاعات” محتملة في الأسواق المالية تشمل الذكاء الاصطناعي، والعملات المشفرة، والديون العامة والخاصة لا يمكن اعتباره تصريحاً عابراً، بل يجب التوقف عنده مطولاً بقراءة دقيقة لمشهد تتراكم فيه المخاطر بصورة متزامنة وغير مسبوقة! الجديد في هذه المرحلة أن “الفقاعات الثلاث”، الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة والديون، ليست معزولة عن بعضها، بل مترابطة بنيوياً. فانفجار أي منها قد يكون كافياً لدفع الأخرى إلى مسار انهياري سريع، بما يضع النظام المالي العالمي أمام اختبار صعب.
المتتبع للأسواق المالية، يلاحظ بأنها تعيش منذ أشهر حالة تفاؤل مفرط! الرهان الأساسي هو أن الذكاء الاصطناعي سيُحدث تحولاً جذرياً في بنية الاقتصاد العالمي ونماذج الأعمال. هذا الرهان رفع التقييمات إلى مستويات قياسية، في وقت تجاهلت فيه الأسواق مخاطر جوهرية، أبرزها استمرار التضخم وتصاعد التوترات التجارية. لكن التراجعات الأخيرة في أسهم القطاعات التكنولوجية بدت وكأنها جرس إنذار مبكر.
فقاعة الذكاء الاصطناعي تقف في قلب هذه المخاوف. فالتكنولوجيا تحمل بالفعل إمكانات كبيرة لرفع الإنتاجية وتحسين الكفاءة، لكن طريقة تمويل توسعها تثير تساؤلات جدية. خلال الفترة الأخيرة، انتقلت شركات التكنولوجيا الكبرى من تمويل مشاريعها عبر الأرباح التشغيلية إلى الاقتراض واسع النطاق. وقد ضُخت مليارات الدولارات في بناء مراكز بيانات عملاقة وبنية تحتية كثيفة الاستهلاك للطاقة، في بيئة تتسم بارتفاع أسعار الفائدة وتشدد شروط الائتمان. هذا التوسع السريع، الذي رفع عدد مراكز البيانات عالمياً إلى نحو 12 ألف مركز، يطرح سؤال الاستدامة.
لكن ماذا لو جاءت العوائد دون التوقعات؟ ببساطه قد تتحول هذه الاستثمارات إلى أصول ضخمة غير مستغلة، ممولة بالديون، وهو سيناريو يعيد إلى الأذهان فقاعة الإنترنت في مطلع الألفية، ولكن بحجم مالي أكبر وتشابك أعمق مع الأسواق الائتمانية. القلق يتعزز مع عودة أدوات التحوط من مخاطر السداد إلى مستويات قريبة مما شهدته أزمة 2008. فارتفاع تكلفة التأمين على الديون المرتبطة بتمويل الذكاء الاصطناعي يعكس إدراك المستثمرين أن المخاطر حقيقية وليست نظرية، والتحذيرات الصادرة عن قادة شركات تكنولوجية كبرى تؤكد أن أي انفجار محتمل لن يستثني أحداً.
أما فقاعة العملات المشفرة تمثل الحلقة الثانية في هذا المشهد. التراجع الحاد في أسعار البيتكوين خلال الأسابيع الأخيرة أعاد التأكيد على هشاشة هذه الأصول أمام تقلبات المخاطر العالمية. الأهم أن الارتباط بين العملات المشفرة وأسواق الأسهم ارتفع بشكل ملحوظ، ما أفقدها دورها المفترض كأصل تحوطي. دخولها إلى المحافظ المؤسسية يعني أن أي هبوط حاد لن يطال المضاربين فقط، بل مؤسسات مالية كاملة. الترابط بين فقاعة الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة أصبح مباشراً. بعض شركات تعدين العملات الرقمية تحولت إلى الاستثمار في مراكز بيانات تخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي. بذلك، باتت مصادر التمويل والمخاطر مشتركة. تراجع الثقة في ديون الذكاء الاصطناعي ينعكس فوراً على الأصول الرقمية، والعكس صحيح، ما يجعل البيتكوين مؤشراً حساساً لمزاج الأسواق تجاه المخاطر.
أما فقاعة الديون، فهي الأخطر والأقل قابلية للاحتواء. الدين العام العالمي تجاوز 100 تريليون دولار، فيما بلغ إجمالي الدين العام والخاص أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الاقتصادي العالمي. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن الحكومات مثقلة بالديون كما هي اليوم. ارتفاع كلفة خدمة الدين في ظل أسعار فائدة مرتفعة يحد من قدرة الدول على التدخل عند وقوع الأزمات. المخاطر لا تقتصر على الاقتصادات الناشئة، بل تمتد إلى الاقتصادات المتقدمة. فاقتراب مستويات الدين في دول كبرى من نماذج كانت تُعد سابقاً هشة يضع النظام المالي العالمي أمام ضغوط غير مسبوقة. الأخطر أن جزءاً متزايداً من ديون القطاع الخاص يُستخدم في تمويل بنية الذكاء الاصطناعي، ما يربط فقاعة الديون مباشرة بالفقاعتين الأخريين.
التاريخ الاقتصادي يُظهر أن الفقاعات ليست استثناءً، بل نمطاً متكرراً، لكن ما يميز اللحظة الراهنة هو “تزامنها وتشابكها”. أزمات 1929 و2000 و2008 كانت عميقة، لكنها لم تنفجر في وقت واحد. اليوم، قد يكون انفجار فقاعة واحدة كافياً لإطلاق سلسلة صدمات متلاحقة.
الذكاء الاصطناعي ليس وهماً، والعملات المشفرة ليست ظاهرة عابرة، والديون ليست دائماً مصدر قلق بحد ذاتها. المشكلة تكمن في الإفراط في تمويل الاهداف الاقتصادية بالاقتراض، وفي تجاهل حدود الاستدامة. لذلك ما تحتاجه الأسواق اليوم ليس الذعر، بل إعادة تسعير عقلانية للمخاطر، وسياسات مالية ونقدية أكثر حذراً، قبل أن تتحول هذه الفقاعات الثلاث من تحذير مبكر إلى أزمة عالمية مكتملة!
