برز حزب الله في مطلع ثمانينيات القرن العشرين في سياق تشكّل المقاومة الإسلامية المسلحة في لبنان، وذلك بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ووصول وحدات من الحرس الثوري الإيراني إلى منطقة البقاع بدعم مباشر من النظام السوري. وجاءت تسمية “حزب الله” من خلفية دينية–عقائدية مستمدّة من القرآن الكريم، ولا سيما قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾. ولذلك حمل الاسم بعدًا رمزياً يدل على جماعة المؤمنين المجاهدين كما فهمته الحركات الإسلامية الشيعية المتأثرة بالثورة الإيرانية (نصر، 2014، ص 45–48).
ويُشار إلى أن الخطاب الإيراني بعد 1979 استخدم مصطلح “حزب الله” للدلالة على التيار الإسلامي الثوري، وانتقل المصطلح تدريجياً إلى الجماعات الإسلامية في لبنان التي بدأت تتقارب عقائدياً وتنظيمياً مع الحرس الثوري. ومع عملية دمج عدد من التنظيمات الإسلامية اللبنانية — ومنها قوات الفجر، التنظيم الإسلامي، السرايا الإسلامية — ظهر الاسم كإطار جامع، وجرى اعتماده رسمياً عام 1985 في الوثيقة السياسية الأولى للحركة المعروفة بـ “البيان المفتوح إلى المستضعفين” التي تُعدّ نقطة التأسيس الفعلية للحزب ككيان سياسي–عسكري (Norton, 2007, pp. 23–26).
وفي سبعينيات القرن العشرين، عام 1972 كان ياسر عرفات قد وقع اتفاقاً مع الإمام الخميني يقضي بتدريب عناصر إيرانية في جنوب لبنان وتلقّى الثوار الإيرانيون تدريبات عسكرية على أيدي حركة فتح الفلسطينية، ومنهم محسن رفیقوست الذي تولّى رئاسة الحرس الثوري بين 1980 و1982. وبعد نجاح الثورة الإيرانية، قدّم ياسر عرفات دعماً للثوار الإيرانيين، وسلمه الإمام الخميني مفاتيح السفارة الإسرائيلية في طهران (Greenheck, 2016, p67). وشكّل هذا الحدث نقطة تحول في علاقة الثورة الإيرانية بالقضية الفلسطينية والبيئة الشيعية اللبنانية.
وفي عام 1982، وقبيل الاجتياح الإسرائيلي، انسحب حسين الموسوي من حركة أمل المعتدلة برئاسة نبيه بري وأسس تنظيماً جديداً في البقاع انضم إليه متشددون إسلاميون، ونال هذا التنظيم دعماً من الشيخ محمد حسين فضل الله في بيروت. وأُرسل عدداً من الشبان للتدريب على أيدي الحرس الثوري وعناصر أمل الإسلامية، وأخذ التنظيم الذي سيصبح لاحقاً “حزب الله” يتبنى سياسة عدائية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، ويستخدم العنف لعرقلة الخطة الأمنية للحكومة اللبنانية آنذاك. واتهمته الولايات المتحدة بتفجير السفارة الأميركية عام 1983 واستهداف القوات المتعددة الجنسية وخطف الأجانب (وثيقة رقم ٣٤).
وقد سمح النظام السوري، الذي كان يحتاج إلى تحالف استراتيجي مع إيران ضد العراق، بدخول الحرس الثوري إلى البقاع في حزيران 1982، وإقامة معسكرات تدريب بإشراف كامل من دمشق. كما اعتمدت سوريا على الجماعات الأصولية اللبنانية لضرب القوات المتعددة الجنسيات (هانف 1994، ص 345). وفي المقابل حصلت سوريا على النفط الإيراني بأسعار مخفضة، ما عزّز تقاربها مع طهران.
وكانت العلاقات الإيرانية–اللبنانية مدعومة بشبكة من العلماء الشيعة الذين درسوا في النجف وقُم. ولم يُعلن اسم حزب الله رسمياً حتى مطلع 1984، رغم بدء العمل التنظيمي قبل ذلك.
وفي عام 1982 توصل وفد إيراني إلى اتفاق مع الرئيس حافظ الأسد يسمح بإنشاء حركة مقاومة إسلامية ضد إسرائيل في لبنان مقابل تزويد سوريا بالنفط. ودعا الإمام الخميني عدداً من العلماء اللبنانيين إلى العودة إلى لبنان وتشكيل نواة مقاومة إسلامية (Greenheck, 2016, p66). ويؤكد بعض الباحثين أن هذا التعاون لم يكن قائماً على وحدة أيديولوجية كاملة، بل على تقاطع مصالح: إيران تسعى لتصدير الثورة، وسوريا تريد توسيع نفوذها في لبنان بعد انسحاب منظمة التحرير. كما يمكن ربط هذا التحالف بالسياسات الإقليمية الكبرى: الولايات المتحدة وإسرائيل والنظام العراقي التي كان لها تأثيرات مباشرة على الاستراتيجية السورية–الإيرانية في لبنان.
وقد بلغ الدعم الإيراني بين 1985 و1991 نحو مئة مليون دولار سنوياً، ليرتفع بعد 1992 إلى نحو مئتي مليون (ديب 2007، ص 268؛ الأغا 2008، ص 57). وأسّس الحرس الثوري البنية العسكرية الأولى لحزب الله في البقاع، رافعاً شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحرير القدس (سنو 2008، ص 77)، وأعلن الشيخ صبحي الطفيلي — أول أمين عام للحزب — أن نظام أمين الجميل هو صناعة إمبريالية (الأغا 2008، ص 57). كما منح الإمام الخميني تسعة لبنانيين ولاية الفقيه عام 1982، مما ساهم في توسّع البيئة العقائدية للحزب (ديب 2007، ص 489).
وارتفع عدد عناصر الحزب في معسكرات البقاع إلى 1500 عنصر خلال عام واحد، وكان معظم المدربين الإيرانيين من خوزستان ويتكلمون العربية بطلاقة. واعتمد الحزب نظاماً تنظيمياً صارماً: طلب خطي، تزكية دينية، وفترة اختبار قد تتجاوز السنة. وتولّى الحرس الثوري تدريب الدورات الأولى، ثم أصبحت الكوادر اللبنانية قادرة على إدارة التدريب. كما أُرسِل عناصر مميزون إلى إيران لدورات بين ثلاثة وستة أشهر (Greenheck, 2016, p69).
وتسارع نمو الحزب بفضل عمله العسكري ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبفضل شبكة مؤسساته الاجتماعية — كـ “مؤسسة الشهيد” و”الأيتام” — إضافة إلى الرواتب المرتفعة التي دفعها لعناصره واستقامة مسؤوليه (عطا الله 2007، ص 443). وأدت هذه المؤسسات إلى تعزيز الشرعية الشعبية للحزب داخل المجتمع الشيعي، ومنحه قدرة على الهيمنة الاجتماعية والسياسية على البيئة المحلية. وتشير تقارير المخابرات الأميركية إلى إشراف مباشر من الحكومة الإيرانية على الجماعات المسلحة في لبنان تحت اسم “الجهاد الإسلامي” و”حزب الله”، واحتجاز خمسة رهائن أميركيين (وثيقة رقم ٣٥).
كما أدى اجتياح 1982 إلى خلق فراغ أمني في الجنوب والضاحية الجنوبية، ما سمح لإيران بتعزيز حضورها ونقل خبراتها العسكرية والدينية، وإعادة صياغة البيئة الشيعية في لبنان، وظهور تنافس بين حزب الله وحركة أمل (Nasr, 2006,pp,47,50). وقد أسس الحزب جهازاً أمنياً داخلياً وهيكلاً متماسكاً يعتمد على مجلس الشورى ووحدات عسكرية نوعية (Berti, 2020,pp108,115). ونفّذ عملياته الأولى في صور ومحيطها، مما ساهم في استنزاف القوات الإسرائيلية، وظهرت مؤشرات انسحاب إسرائيل من بعض المناطق عام 1985 (Harik,2010,pp,38,46 ). كذلك أنشأ الحزب بنية اجتماعية–تربوية واسعة، وسعى إلى تحقيق اكتفاء ذاتي عبر مؤسسات دينية وتعليمية، مع التدريب المكثف للكوادر اللبنانية لتعزيز قدرة الحزب على الإدارة المحلية والسيطرة على البيئة الاجتماعية (Meyssan, 2007,pp,118,126).
إضافة إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى أن الحزب جمع بين الأبعاد الأيديولوجية والاجتماعية والعسكرية، ما ساعده على بناء هوية جماعية قوية، مكنته من الصمود في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، وأصبح نموذجاً فريداً بين الميليشيات اللبنانية.
وبعد الحرب الأخيرة التي خاضها حزب الله ضد إسرائيل إثر هجوم 7 أكتوبر 2023، وما نتج عنها من خسائر عسكرية وسياسية كبيرة، وتراجع الدعم الإقليمي بعد سقوط النظام السوري، وتصاعد العقوبات الدولية على إيران، وتصاعد المواقف السياسية والشعبية المنددة بأعمال الحزب في الداخل اللبناني والعربي، بات الحزب أمام واقع جديد يتطلب إعادة تقييم موقعه وتحديد خياراته المستقبلية في ضوء المتغيرات الراهنة.
فعلى المستوى العسكري، أظهرت الوقائع أن خوض مغامرات مسلحة ضد إسرائيل لم يعد مجدياً كما في السابق، وأن قدرات الحزب لم تعد قادرة على مجابهة قوة جيش نظامي متطور دون تكلفة باهظة على بيئته وعلى لبنان بشكل عام. أما داخلياً، فامتلاك الحزب للسلاح لم يعد يشكل ميزة سياسية موازية للأحزاب والتنظيمات الأخرى التي تفضّل العمل داخل النظام الديمقراطي اللبناني، مما يقلّص من القبول الشعبي لهذا السلاح خارج إطار الدولة. وفي المجتمع الشيعي نفسه، هناك مخاوف من أن يؤدي تسليم السلاح إلى تراجع الثقة أو إلى فراغ أمني يُستغل من قبل جماعات مسلحة أخرى، وهو ما يحتاج إلى بحث مستفيض ودراسات أمنية واجتماعية دقيقة قبل اتخاذ أي قرار.
المراجع
1. Berti, Benedetta. Armed Political Organizations. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2020.
2. Greenheck, Kyle L. “Civil War Hijacked: A Case Study of the Lebanese Civil War.” Monterey, California: Thesis, June 2016.
3. Harik, Judith. Hezbollah: The Changing Face of Terrorism. London: I.B. Tauris, 2004.
4. Norton, Augustus Richard. Hezbollah: A Short History. Princeton: Princeton University Press, 2007.
5. Nasr, Vali. The Shia Revival. New York: W.W. Norton, 2006.
6. Meyssan, Thierry. L’Effroyable Imposture. Paris: Editions Alphée, 2007.
7. Hezbollah. البيان المفتوح إلى المستضعفين. Lebanon: وثيقة رسمية, 1985.
ثانياً المراجع العربية
8. ديب، كمال. أمراء وحرب وتجار الهيكل: رجال السلطة والمال في لبنان. بيروت: دار النهار، 2007.
9. عطا الله، طوني. نزاعات الداخل وحروب الخارج. بيروت: منشورات المؤسسة اللبنانية، المكتبة الشرقية، 2007.
10. سنو، عبد الرؤوس. حرب لبنان: تفكك الدولة وتصدع المجتمع 1975–1990. بيروت: دار العلوم العربية، 2008.
11. الاغا، يوسف. حزب الله: التاريخ الأيديولوجي والسياسي 1978–2008. بغداد–أربيل–بيروت: دراسات عراقية، 2008.
12. هانف، تيودور. لبنان: تعايش في زمن الحرب من انهيار دولة إلى انبعاث أمة. بيروت: دار لحد خاطر للطباعة والنشر، 1994. (نُقل عن الألمانية بواسطة موريس صليبا، مركز الدراسات العربي والأوروبي، باريس)
13. نصر، هشام. حزب الله: التاريخ والأيديولوجيا والسياسة. بيروت: دار الساقي، 2014.
١٤. وثيقة رقم ٣٤. CAI – RDP85T00287R001302140001-2
Date,23,8,2010
١٥ . وثيقة رقم ٣٥
CAI-RDP88B00443R000200820005-8
Date,15,6,2011
