يبدو أنّ المثقف ليس فقط من يكتب الشعر أو القصة والرواية، أو يعمل في القطاعات الفنيّة؛ بل إنّ هذا المفهوم ينسحب على ما يتمتّع به الأردني من حسّ وطني ورؤية لا بدّ وأنّها تحمل حضور الوطن ومرتكزاته وثقافته وهويته، حيث الجانب الثقافي مهم جدًّا كبوصلة وطنية، وكقطاع يحمل طموحات جلالة الملك عبدالله الثاني ويسير بها، وحيث أمان الدولة الأردنية وحفاظها على منطلقاتها التي أرساها الهاشميون.
هذا كان لسان حال جلالة الملك عبدالله الثاني، وهو يكاشفنا بشفافية عالية، في بيت وزير الثقافة الأسبق الدكتور بركات عوجان، فقد كان جلالته بمنتهى الوضوح وهو يقرأ الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني في المنطقة، وعلاقتنا بمن حولنا، وحدودنا وأخطار المخدرات، وأيضًا المطبخ السياسي الذي كان يفسّره جلالته بطريقة تشعرك بالاطمئنان إلى ثقة قائد سياسي فذ، يحرص في الوقت ذاته على حضور المثقف دائمًا في هذه المفردات، من خلال إبداعه وتوثيقه الأدبي والفني.
الموضوع الرائع الذي أثّر في الحضور وأفرحهم بعمق المكاشفة، كان أنّ جلالة الملك، وفي توجيهاته ومكاشفته بأحدث المواضيع والمستجدات السياسية والاقتصادية والأمنيّة والطموحات، وعلاقتنا بدول آسيا وقطاع الاستثمار، والمعادلة السياسية الصعبة أيضًا في المنطقة، وحدودنا الآمنة ودعمنا المستمر لغزة،.. كان في توجيه جلالته، من خلال طروحات المثقفين لموضوع السردية ومعاصرتها أو اقتصارها على القديم، بأنّ من حقّ الشباب أن نكاشفهم بظروف الخمسينات والستينات وما قبلها وما بعدها من تحديات واجهت الدولة الأردنية، واستطاعت أن تقوم منها بنجاح، لأن الحديث عن السردية من وجهة نظر المثقفين كان على اعتبار أنّ هذه السردية ينبغي أن تكتب بعقلية جيل اليوم والأجيال القادمة، فلا تكون منعزلة عن الشباب وعن تثقيفهم بظروفنا السياسية، ولكنّ جلالة الملك كان يضع ميزانًا رائعًا في التعامل مع الشباب، باعتبارهم غير منقطعين أو منبتّين عن تراثهم وأصولهم وتحديات بلدهم ونشأته وحضارته، بمعنى أنهم يجب أن يطّلعوا على كل ما سبق، حتى لو لم يعايشوا تلك الظروف أو يكونوا في خضمّها، وهذا أمرٌ طيب من جلالة الملك، فهو بوصلتنا السياسية والثقافية إلى العالم.
تحدث الحضور عن أمور ثقافية شتى، لكنها أفكار طيبة في أنّ الثقافة يجب أن تحمل الهم الوطني، وهي قوة ناعمة، ولكنها قوّة تغيّر من التفكير نحو الأفضل، وتحمل مرتكزات الدولة الأردنية، وألا نترك شبابنا لرياح عاتية تأتيهم بين الحين والآخر، وهو ما يتطلب حضور الإعلام الثقافي الذي يراعي المرحلة، ويحرص على أن يظل الشباب يتنفسون هواء الوطن، لا أن يكونوا خارج مساحته، في ظلّ كلّ هذه الأجندات.
والواقع أنّ دخول جلالة الملك للمثقفين في حوارهم مع جلالته لم يكن دخولًا تقليديًّا جافًّا، وإنما كان مبنيًّا على أهمية أن يشارك المثقف في قراءة الوضع، ويتفهم هذا المثقف ما يتطلب دوره الحقيقي في ذلك، ولهذا كانت مواضيع الحوار بين يدي جلالة الملك ثرية كاشفت جلالته بطموح المثقفين الأردنيين، والميزانيات القليلة لوزارة الثقافة، وأهمية المشاريع الثقافية التوثيقية التي تقرأ تاريخنا، وضرورة أن يكون للسردية الأردنية حضورها لصياغة الوجدان، وتأكيد الاعتزاز الوطني ببلدٍ ضارب في الجذور تأسس على منطلقات الوطن العروبي الذي احتضن أحرار العرب أيام الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين طيب الله ثراه، والدولة التي دخلت مئويتها الثانية باقتدار، وتستحق أن يقف في مشروعها الوطني المثقفون والمنتمون إلى كلّ القطاعات والاهتمامات.
في الواقع، كان حديث جلالة الملك عذبًا فيه اطمئنان إلى أنّ القيادة الهاشمية قيادة حكيمة، وذات حنكة سياسية في المطبخ السياسي، وأولويات المعادلة وعلاقتنا العربية، وكذلك حدودنا مع إسرائيل، ودور الولايات المتحدة الأمريكية في الوضع الراهن، وكذلك تحديات سوريا، والاستثمار في الأردن، ومشاريع أخرى كان يعمل عليها جلالة الملك ويحاول تعزيزها في جولته بآسيا، وهكذا فقد كانت الحدود الأردنية بالنسبة لجلالة الملك خطًّا أحمر، ولها الصدارة والحضور.
كما وضعنا جلالة الملك بتحركاته وقلقه المبرر، وشعوره أيضًا بالاطمئنان لهذه المعادلة وإيجاد حلول لها، وقراءة أكثر من وجه سياسي واقتصادي فيها.
أمّا المثقفون في جلستهم مع جلالة الملك، فكانت أحاديثهم عذبة ومكاشفة، وذات تطلعات إلى حماية اللغة العربية وتأكيد حضورها دون أن يمنع ذلك أن ننفتح على الآخر ونقرأ ثقافته ونتفهم هذه الثقافة، كما كانت المداخلات تتطرق نحو جهات شريكة مع وزارة الثقافة، كأمانة عمان الكبرى وضرورة أن تعود هذه الأمانة إلى دورها الثقافي المأمول.
كما تطرق الحضور إلى أهميّة حضور الشباب وحمايتهم، مكاشفين جلالته بتحديات المثقف وضرورة العمل على توثيق المكان والزمان في الأردن ضمن مشروع السردية التي كانت حاضرة كأرضية وبيئة خصبة، لتأكيد الوجود الأردني بما هو مصدر اعتزاز الشباب والأجيال، وبما يقدم صورتنا للآخر، لذلك كان جلالته شفوقًا على ما يجري، ويعمل ليلًا نهارًا في ذلك، بل كان مطمئنًا أيضًا إلى حضورنا، كدولة وشعب مثقف وواعٍ يراعي مصلحة بلده في المقام الأول.
كما لم يتفاجأ المثقفون في هذه الجلسة برؤية جلالة الملك، من خلال نظرة شمولية، حيث وسرديتنا دائمًا هي جزء من حضورنا ووجودنا، وتقف مدافعةً أمام السرديات الأخرى.
ولذلك كانوا يشعرون بروعة الحديث مع جلالة الملك، فلم يكن الكلام مصنوعًا، وإنما كان طبيعيًّا من القلب إلى وجدان وعقل جلالة الملك الذي كان يوعز بضرورة تنفيذ وقراءة هذه المطالب من جديد، خصوصًا وأنّ المثقفين دائمًا كانوا يتلقّون توجيهات جلالته في كتب التكليف السامي، ويهتمون بدور الإعلام الثقافي في الذود عن الوطن والتنبيه بالمخاطر.
وهو ما كان يشعرهم بالاطمئنان إلى فكر جلالته النير وانحيازه للمثقف، على اعتبار أنّ المثقف هو بوصلة للوطن في نهاية المطاف، ويقف إلى جانب هذا الوطن.
وكتحديات للمشهد الثقافي، كان جلالة الملك مستمعًا جيدًا ويؤمن ويثق بالحلول والاقتراحات، فكانت المسافة بينه وبين المتحدثين صفرًا، أي أنّ جلالته كان واقعيًّا ويؤمن بالتحرك المستمر لحماية مصالحنا وتأكيد دورنا في الوصاية الهاشمية على القدس.
حضور الجلسة بين يدي جلالة الملك، كان يتوزّع بين من يشتغلون بالتوثيق والإعلام الثقافي، ومجامع اللغة العربية والتأريخ، كما تطرق النقاش إلى أكثر من الجانب ثقافي، كالتعليم ومستقبل الأردن سنة 2030 وما بعد.
كلمة الدكتور بركات في تقديم المثقفين، عبّرت عن التفاف المثقفين حول جلالة الملك: «أبدأ حديثي متوشحًا بوسام عزٍّ وفخرٍ وسمتني به يا سيدي بحضورك البهي في رحاب منزلٍ ازداد ألقًا وتشريفًا، إذ يقال: «ملك عادل خير من مطر هاطل»، لكننا الأردنيين أكرمنا الله بالاثنين معًا: الملك العادل والمطر الهاطل».
كما كانت الذاكرة تعود في كلمة الدكتور عوجان إلى عشراتٍ تقطعت من الأعوام، إلى أكثر من قرن من الزمان، عام 1920م عندما وصل سمو الأمير الشاعر والمثقف عبدالله الأول ابن الحسين الذي اتخذ من قصره مقرًّا للدفاع الوطني، فكانت البدايات الثلاثة، التأسيسية، والسياسية، والبداية الأهم كانت الثقافية الإعلامية وهي «الحق يعلو»، كما كان الملك المؤسس يدرك، كما يدرك الهاشميون جميعًا، أنّ الأمم تزدهر وترقى بالثقافة، فهي خطّ الدفاع الأول للمجتمعات، ولذلك فخير ما خاطب الله به بني الإنسان على مر الدهور والأزمنة كلمة «اقرأ»، وهو ما يدل على أنّ الثقافة هي مفتاح الازدهار والتنمية، فقد أنشئت مملكتنا على نهج نهضة عربية رفع رايتها الهاشميون، حيث هم القضاة العدول والحكام الذين حكموا بفيء النبوة، ولذلك فالأردن حمل هواجس العرب جميعًا، وكان يوجعه نزف الأشقاء، في كل أرضٍ عربيةٍ ملتاعة لحمحمة الموريات قدحًا.
كما حملت الكلمة إدراك الأردنيين للقلق الذي أشار إليه جلالته، كقلق مولع بحب الوطن، فجلالته شأن ذويه لا يخاف إلا الله ولا يخشى غيره، والجميع معه، حين تصير سماحتنا غضبًا إن مسّ الوطن عتمٌ أو عكّر الصفو دخيل، «فمن أراد الشذى كنا أزاهره/ ومن أراد الأذى كنا له الأرقا»، أمّا المثقفون فلا يمكن أن يديروا ظهرهم للحداثة، فهم في محيط عربي وعالم أوسع أصبح قرية، فكان من المهم التعامل مع هذه الحداثة بكل ثقة، حيث زيارة جلالة الملك المتكررة للعالم، واهتمامه بأن نكون بين الكبار، خاصة الزيارة الأخيرة للدول الأربع في شرق آسيا، بما فيها من شراكات ثقافية وسياسية وحتى عسكرية، فكان جهدًا وطنيًّا ورؤيةً ملكيةً ثاقبةً، فالهاشميون رمز العطاء الذي لا ينضب، أمّا المثقف، فلا يمكن أن يخذل قائد الوطن، بل لا يمكن أن يكون المثقف على مقاعد المتفرجين.
