منذ إعلان دولة “لبنان الكبير” في عشرينيات القرن الماضي، يدخل لبنان التاريخ ويخرج منه وكأن شيئًا لم يحدث. تيارات متناقضة، مصالح متضاربة، وعداوات لا تنتهي… وكل هذا تحت شعار واحد: “نحن نحمي مصالحنا قبل مصالح الدولة”.
بعد إعلان الدولة، ظهرت على الخريطة اللبنانية شخصيات وأحزاب وتيارات، كل واحدة تحمل حلماً مختلفاً:
التيار الذي رغب بالانضمام إلى الملك فيصل، يرى لبنان جزءًا من الأمة العربية، في اتحاد فيدرالي رائع، لكنه لم يجد أحدًا يهتم برؤيته سوى التاريخ نفسه.
تيار الوحدة السورية، الذي حلم بعودة لبنان ضمن سوريا، مستندًا إلى التاريخ والجغرافيا، لكنه اصطدم بواقع أن بعض اللبنانيين فضلوا البقاء مع القهوة الفرنسية بدل الوحدة العربية.
تيار الحماية الفرنسية، الذي أحب فرنسا أكثر من اللبنانيين أنفسهم، وجعل الانتداب الفرنسي فرصة للسيطرة الطائفية و”التناوب الجميل” على السلطة.
تيار الاستقلال الكامل، الذي رغب بلبنان حر، مستقل، دون حماية أو ضم، لكن هؤلاء بقوا نخباً مثالية على الورق، لأن الواقع السياسي لم يسمح لهم بالتحرك.
تيار أنصار الانتداب، الذين سيطروا على رئاسة الجمهورية بالتناوب وكأنها لعبة شطرنج، رعاية المفوض السامي كانت مجرد مسرحية تقليدية، واللعب السياسي استمر على نفس المنوال.
والمضحك والمثير للسخرية أن لبنان منذ ذلك الحين لم يتغير. تغيّر الأشخاص، وتغيرت الحكومات، وتغيرت الشعارات، لكن أسلوب العمل السياسي ظل كما هو: محاصصة طائفية، نفوذ شخصي، وخلافات تُستغل لأي شيء. لا مشاريع وطنية، لا تنمية حقيقية، لا حلول مستدامة. فقط لعبة مصالح وأوهام قومية وطائفية تُعاد على المسرح كل مرة وكأن لا أحد يلاحظ.
وفي هذه المسرحية، الشعب اللبناني يشاهد من المقاعد الخلفية: المواطن العربي المتعب من الانتخابات والوعود، يحلم بمستقبل أفضل لكنه يجد نفسه محاصرًا في دوامة من الانقسامات القديمة نفسها. كل أزمة تُستغل، كل نزاع يُعاد، وكل حكومة جديدة تبدأ وتكرر الأخطاء السابقة، وكأن لبنان هو متحف حي للخيارات الفاشلة.
أما أجمل ما في الواقع اللبناني، فهو هذا المزيج المدهش من الجدية الساخرة: فكل نقاش سياسي يتحول إلى ساحة للمزايدة الطائفية، وكل دعوة للوطنية تتحول إلى أداة صراع، وكل إصلاح يُعرض على رف الانتظار إلى أن يتحول إلى ذكرى قديمة، تمامًا كما وعدونا منذ مئة عام.
باختصار، لبنان هو الدولة التي لم تتغير: تاريخها مسرحية كوميدية سوداء، وحاضرها نسخة طبق الأصل من ماضيها، ومستقبلها يبدو وكأنه نسخة تجريبية من حلم لم يُكتمل. والمفارقة الكبرى؟ الشعب اللبناني، رغم كل شيء، لا يزال هنا، يبتسم بسخرية، ويقاوم، ويرى في الكارثة اليومية مجرد حلقة جديدة من مسلسل لم ينتهي منذ إعلان لبنان الكبير.
