الثاني من تشرين الثاني عام 1917، أطلق وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور وعده المشؤوم الذي منح بموجبه أرض فلسطين “وطناً قومياً لليهود”، ليُحدث بذلك الشرارة الأولى لمسار استيطاني دموي ما زال يمتد حتى اليوم. وبعد أكثر من قرن على تلك الرسالة، يتجدد المشهد ذاته بوجهٍ جديد، مع حربٍ مفتوحة على غزة ولبنان والمنطقة تُعيد التذكير بأن ما بدأ بوعد بلفور لم ينتهِ، بل تطوّر إلى مشروعٍ توسّعيٍ مستمرّ تحت غطاء “الدفاع عن النفس”.
الامتيازات العثمانية إلى الهيمنة البريطانية
بدأ التغلغل البريطاني في فلسطين منذ القرن التاسع عشر، حين افتتحت لندن أول قنصلية لها في القدس عام 1838، واستغلت الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية للأجانب لتسهيل تملّك اليهود للأراضي الفلسطينية عبر وسطاء. ورغم رفض السلطان عبد الحميد الثاني مشاريع الاستيطان، ورفضه السماح بتهجير اليهود إلى فلسطين، تابعت بريطانيا جهودها لتمكين المشروع الصهيوني اقتصادياً وبنيوياً، خصوصاً في مشاريع النقل والبنية التحتية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تحوّل المشروع إلى اتفاقيات استعمارية مكتوبة مثل سايكس – بيكو (1916)، التي مهدت لتقسيم المنطقة ووضع فلسطين تحت النفوذ البريطاني المباشر. وبعد احتلال القدس عام 1917، أعلن القائد البريطاني إدموند ألنبي الأحكام العرفية، واضعاً المدينة تحت السيطرة العسكرية البريطانية، ليبدأ عهد الانتداب الذي شكّل الغطاء الرسمي لتنفيذ وعد بلفور.
صك الانتداب… الشرعنة القانونية للوعد
في عام 1922، منحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأكد صك الانتداب في مقدمته أن بريطانيا ملتزمة بتنفيذ وعد بلفور، لتتحول فلسطين إلى مختبر سياسي يُحضّر فيه “الوطن القومي اليهودي”. أصدرت بريطانيا قوانين تسهّل الهجرة اليهودية ومصادرة أراضي العرب، فكانت تلك المراسيم اللبنة الأولى في بناء الكيان الإسرائيلي الذي أعلن قيامه عام 1948 على أنقاض النكبة.
رسالة بلفور… جذر النكبة المستمرة
جاءت رسالة بلفور إلى اللورد روتشيلد لتؤكد بوضوح أن “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. لكنّها تجاهلت عمداً وجود الشعب الفلسطيني، واكتفت بإشارة شكلية إلى عدم المساس بـ”حقوق الجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين”. تلك الصياغة الغامضة كانت كفيلة بفتح الباب أمام التهجير والمجازر والاستيطان، وهي السياسات نفسها التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي اليوم في غزة والضفة والقدس، مع فارقٍ واحد: أن الرصاص هذه المرة أكثر وحشية، والدعم الغربي أكثر صراحة.
من وعد بلفور إلى حرب الإبادة في غزة
اليوم، بعد 108 أعوام على صدور الوعد، تتجدد المأساة الفلسطينية على نحو غير مسبوق. غزة تحترق تحت القصف الإسرائيلي منذ أكثر من عام، في حربٍ تُوصف بأنها الإبادة الأكثر توثيقاً في التاريخ الحديث، وسط عجزٍ دوليٍّ مطبق وصمتٍ غربيٍّ يُعيد إنتاج المنطق الاستعماري ذاته الذي أفرز وعد بلفور قبل قرن.
الاحتلال يكرّر اليوم سياسة “الوعد” نفسها لكن بأدواتٍ جديدة: تهجير قسري، حصار شامل، وتجويع ممنهج، بينما تُساق المنطقة نحو مواجهة مفتوحة من جنوب لبنان إلى البحر الأحمر. فالمشهد الإقليمي يشهد تمدّداً للنار من غزة إلى الجليل، ومن الجولان إلى العمق السوري، في وقت تتقاطع فيه مصالح كبرى القوى العالمية لتكريس واقع جديد تحت عنوان “إعادة تشكيل الشرق الأوسط”.
لبنان على خط النار
وفي لبنان، تتصاعد المواجهة اليومية على الحدود الجنوبية بين المقاومة اللبنانية والجيش الإسرائيلي، فيما يواصل الاحتلال قصف القرى والبلدات محاولاً فرض معادلة “الأمن مقابل الإخلاء”، في تكرارٍ لمبدأ “الوعد بالسيطرة” الذي قامت عليه الصهيونية. لكنّ المشهد اللبناني اليوم يختلف عن السابق: لبنان يقف في قلب معادلة الردع الإقليمي، ويُشكّل مع محور المقاومة خط الدفاع الأول عن القدس وغزة معاً.
من وعود الماضي إلى نار الحاضر
إنّ الحرب الدائرة اليوم ليست سوى الوجه الجديد لوعد بلفور. فالمشروع واحد، والغاية واحدة: اقتلاع الإنسان الفلسطيني من أرضه، وتوسيع رقعة السيطرة الإسرائيلية بدعم غربي مطلق. وبينما كانت بريطانيا بالأمس منحت الوعد، تتكفّل الولايات المتحدة اليوم بتسليحه وتمويله وحمايته سياسياً في مجلس الأمن، لتثبت أن الاستعمار لم يتغيّر، بل غيّر فقط علمه وشعاراته.
والنهاية ما بين وعد بلفور عام 1917 وحرب غزة عام 2025، يمتدّ قرنٌ من الخداع الغربي والظلم الاستعماري. تغيّرت الحكومات، وتبدّلت الأنظمة، لكنّ الحقيقة الثابتة هي أن فلسطين لا تزال تدفع ثمن وعدٍ لم يُستشر أهلها فيه، ولا يزال يُكتب بدمهم حتى اليوم.
وإذا كان وعد بلفور قد منح الصهاينة وطناً على الورق، فإن غزة اليوم تُسقط شرعية ذلك الوعد بالدم والمقاومة، وتعلن من تحت الركام أن التاريخ لا يُكتب في مكاتب لندن أو واشنطن، بل يُصاغ في شوارع القدس، وأنّ الشعوب لا تنسى، حتى بعد مئة عام من الظلم.

