الرأي –
منذ إطلاق جلالة الملك عبدالله الثاني مبادرة «اجتماعات العقبة» عام 2015، كان الهدف واضحاً: تعزيز التنسيق الدولي في الحرب على الإرهاب والفكر المتطرف، وتأسيس شبكة ثقة عابرة للحدود بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، بعيداً عن التجاذبات السياسية.
على مدى عشر سنوات، عقدت المبادرة 34 اجتماعا، منها 11 على مستوى القادة، شملت مناطق تمتد من شرق وغرب إفريقيا إلى البلقان وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، في دليل على عمق الاهتمام العالمي بالمبادرة وآلياتها الفاعلة.
وقد شاركت في استضافة تلك الاجتماعات دول كبرى مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإسبانيا، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، والبرازيل، ونيجيريا، ورواندا، وبلغاريا، وسنغافورة، وألبانيا، وإندونيسيا، بما يعكس اهمية دور الأردن كشريك دولي مؤثر في صياغة مفاهيم الأمن العالمي.
وفي هذا السياق، ترأس جلالة الملك ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في روما جولة جديدة من مبادرة «اجتماعات العقبة» بتنظيم مشترك مع إيطاليا.
وناقشت الجولة – وهي الثانية حول غرب إفريقيا – سبل تكثيف الجهود والتنسيق الدولي لمحاربة الإرهاب والفكر المتطرف في المنطقة، وأبرز التحديات الأمنية والمستجدات فيها.
هذه الجولة تؤكد أن المبادرة التي انطلقت من العقبة باتت اليوم منصة عالمية تطلبها الدول لأهميتها وجدّية المواضيع التي تناقشها، حتى أصبحت بعد عشر سنوات من إطلاقها علامة فارقة في العمل الأمني والدبلوماسي الدولي.
وتنعقد اجتماعات العقبة في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، بعد دخول اتفاق وقف اطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، عقب حرب استمرت عامين أعادت خلط الأوراق الأمنية والسياسية في المنطقة.
في ظل هذا المشهد المضطرب، يبرز الدور الأردني كمحور توازن واستقرار، ليس فقط لاحتواء تداعيات الحرب وتطورات الموقف في الضفة الغربية على حدود المملكة، بل أيضًا للمساهمة في بناء تصور جماعي جديد للأمن الإقليمي يقوم على الوقاية من التطرف، عبر سياسات دولية متوازنة تنبذ أسلحة الإبادة والتجويع والتطرف، إلى جانب تجفيف منابعه الفكرية والاقتصادية.
ومن هنا، يأتي انعقاد الجولة الحالية بمشاركة رفيعة المستوى ليؤكد أن الأردن لا ينظر إلى الحرب على الإرهاب كملف عسكري فحسب، بل كقضية إنسانية وأخلاقية تتقاطع مع أزمات اللجوء والفقر والاحتلال والنزاعات، وكلها عوامل تغذي بيئة التطرف.
وتقوم المقاربة الأردنية في مبادرة «العقبة» على مبدأ الأمن الشامل الذي يدمج بين الأمن العسكري والفكري والاجتماعي، ويضع الإنسان في صميم الاستقرار.
وفي هذا الإطار، فإن الاجتماعات تمثّل منصة عملية لتبادل الخبرات والمعلومات بين الدول، لكنها في الوقت نفسه منبرٌ للحوار السياسي الهادئ، حيث يلتقي ممثلو دول لا تجمعهم أحيانًا علاقات دبلوماسية مباشرة، ما يجعل من هذه الاجتماعات مساحة تواصل محايدة وموثوقة.
كما تُعيد هذه الاجتماعات تسليط الضوء على الدور الأردني المتجذّر في حماية الأمن الإقليمي والعالمي من ارتدادات الفوضى، سواء في الجنوب السوري أو في سياق الأزمة الغزّية أو ضمن الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب عبر الإنترنت.
ويحمل الأردن، من خلال هذه المبادرة، رسالة مزدوجة إلى المجتمع الدولي: الأولى، أن مكافحة الإرهاب لا يمكن أن تنجح بمعزل عن العدالة السياسية، وأن استمرار الظلم والاحتلال يولد بيئات حاضنة للتطرف.
والثانية، أن الأمن لا يبنى بالقوة وحدها، بل بالثقة والشراكة والتنمية، وهي القيم التي رسخها جلالة الملك في خطاباته أمام المحافل الدولية، وجعل منها محور رؤية الأردن في التعامل مع أزمات المنطقة.
لقد تحولت مبادرة العقبة إلى رافعة دبلوماسية وأمنية، أسهمت في تشكيل رأي دولي موحّد تجاه خطر التطرف العابر للحدود، وربطت بين القارات الخمس في إطار من المسؤولية المشتركة.
واليوم، بينما تتسع رقعة النزاعات وتتزايد الصراعات، تكتسب هذه الاجتماعات بعداً استراتيجياً جديداً، يجعل من العقبة–كما أرادها الملك–ملتقى للثقة الدولية ونقطة تلاقٍ بين الشرق والغرب في مواجهة التهديدات التي تطال الجميع.
في زمن الاضطراب الإقليمي وعودة الصراعات، تبدو اجتماعات العقبة وكأنها رمز لسياسة أردنية متزنة تجمع بين الحزم في مواجهة الإرهاب، والانفتاح في بناء الجسور، والحكمة في إدارة توازنات المنطقة.
