ليس سرا القول إن مما تحظى به المراتب الإدارية العليا في أي مؤسسة من القطاعين العام والخاص في العالم، هي ميزة الاطلاع مسبقا -بأيام وربما أكثر- على برنامج عمل من تقوم على خدمته من قيادات وأولويات.
أهمية إضافية يتم توكيدها، عندما يكون الجمهور المستهدف داخليا أو خارجيا معنيّاً بقضية كبرى أو حدث مهم، أو تلك الكلمة التي راجت وصارت موضة، «السردية»!
على ضوء ذلك التوكيد الإضافي الذي يصل إلى حد التعميم الخطي والشفوي همسا في الأمور الواجب إبقاؤها قيد الكتمان، يتم ضبط إيقاع كل ما عدا الحدث الأبرز. ليس إرجاء مناسبة بل حتى إلغاء أي نشاط يتعارض مع الصورة العامة لما يستحق أن تكرس له التغطيات لا مجرد الاكتفاء بصدارتها كخبر.
ليس حصرا بالأسبوع الماضي، فالأمر بات مكررا إلى حد الاجترار المريب، ما سر إصرار البعض على تشتيت الانتباه، لا بل والتمادي في تبديد الجهود والطاقات؟ ما هذا العناد في سرقة الأضواء واختطاف الكلمة والصورة والموقف والمشهد العظيم الذي يسجل فيه الأردن نجاحا في مضمار يكاد يكون وجوديا؟ ما هذا السيل الجارف من الأزمات المفتعلة وطوفان الأفعال وردود الأفعال لما هو إما كاذب أو مفبرك أو مشوّه أو منزوع من سياقه ودسمه وعرق حيائه؟
أي أخلاق وأية عقول وضمائر خاوية خَرِبة تلك التي لا ترى الإنجاز ولا التحدي ولا التهديد فتتعامى في خضم معركة إعلامية تكاد لا تلتقط أنفاسها، في ضخّ محموم مسموم للأخبار الكاذبة والدعايات المغرضة.
حتى تلك الأخبار الصحيحة أو المحِقّة، بما فيها ما يدعو إلى التحقيق والمحاسبة، على أهميتها، ولنَقُل تسليما ومسبقا على عدالتها، كان بالإمكان اعتماد أحد خيارين أو كليهما وهو الأنسب والأسلم، ألا وهو إبقاء الطرح في دائرة مغلقة على المعنيين مباشرة، أو إرجاء طرح القضية على الرأي العام، في حال عدم استجابة صنّاع القرار، لنداءات الاستجابة والاستغاثة.
قد لا تبدو الصورة بهذا الوضوح للقريب، خاصة المنخرط لأي سبب كان في تفاصيل القضية التي تم تصديرها إلى الفضاء العام عبر الفضاء السيبراني ونابه الأزرق، لكن عندما ترى قضية بحجم الأداء الدبلوماسي الأردني الراقي والقوي باللغتين العربية والإنجليزية في أحد أهم المحافل الدولية، تتساءل من يحرّك هذه الملفات المغرِقة بالمحلية والغائرة في الظرفية؟ من يعبث بتوقيت طرح المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب؟ فضلا عن الكم والكيف الذي تحتله دوامة الأفعال وردود الأفعال، وكل ما هو مفتعل بتغريدة هنا وتعليق هناك، يبدأ بالمنصات وسرعان ما يزاحم الأخبار على الشاشات بما فيها «الرسمية والوطنية»؟
المؤسف أنه وأيا كانت القضية والحدث، تجد من يفشي روح التنازع والخصام والتنمّر والعدائية. حتى وإن صلحت النيات، وهي قلما تكون كذلك، فإن الأثر العام لما تحدثه تلك «الزوابع» الإخبارية، غير حميد. ليس فقط تشتيت انتباه بعيدا عن الحدث الأهم والقضية الكبرى، بل تبديد للطاقات والجهود والروح المعنوية التي لا سبيل إلى شحذها وتوظيفها وترشيدها إلا تراكميا وجماعيا.
مع وافر المحبة والاحترام للمعنيين في قرارات التوقيت والكم والكيف، كان بالإمكان إرجاء خبر «أزمة» هنا وآخر هناك لحين اكتمال هذا الأداء الأردني الهاشمي العظيم في واشنطن ونيويورك على مدى نحو أسبوعين.
من غير المعقول -حتى لا أستخدم كلمة تثير حفيظة أحد- أن ينشغل الرأي العام بحرب كلامية ضروس حول أي قضية محلية داخلية «درامية» في الوقت الذي ما زالت تستهدف فيها حدودنا بالسموم المسماة المخدرات، ولا تزال محاولات افتعال صدام مع نشامى الشرطة والأمن والدرك في رحاب المسجد الحسيني في اختطاف مقيت آن أن ينتهي، لأماكن العبادة والأسواق العامة وساحات يعرف الجميع أنها قبلة السياح الأجانب والعرب والمغتربين الأردنيين.
ليتقوا الله في أردننا المفدى، ويكفّوا عن هذا التشتيت المقيت والتبديد المميت. حتى الفرح بأمطار «أيلول المبلول» وجد من يتندر ويتنمر على بركة ماء في حي سكني ومنهل شارع، ويخرسون عندما تُغرق الأمطار الطوفانية والسيول العارمة معالم إنشائية «مليارية» كالمطارات ومحطات الأنفاق «الميترو» لأولياء نعمتهم من ممولي بعض «الناشطين» و»المؤثرين»!
حتى رحمة الله وبشائر مواسم الخير وهطول بركات السماء يتلاعبون في تأويلها، هذا «أول الغيث قطْرُ» وذاك فساد مقاولين وبُنى تحتية!
