في زاوية معتمة من المشهد الإقليمي، حيث تتقاطع خطوط النار بالمصالح الكبرى وتتنازع الجغرافيا مع التاريخ، يقف الأردن في مواجهة احتمال تحوّل تدريجي من هامش استراتيجي إلى ساحة مواجهة ذات أبعاد مدروسة. ما كان يوماً سهلاً أن يُقرأ كحالة جانبية في خرائط الصراع، بات الآن مؤهّلاً لأن يكون هدفاً مفصلياً في لعبة جيوسياسية تعيد رسم الحدود والولاءات…
لا نتحدث هنا عن مجرد اصطدام عسكري مُحَدّد الأهداف، بل عن مشروع خفي يعمل على تحويل ذريعة إلى واقع، فقد تُستغل العمليات ضد قطاع غزة لتشجيع تمدّد جغرافي واستراتيجي يتجاوز الفعل العسكري المباشر، ويضع الأردن في قلب حسابات تبدو أكبر من فلسطين نفسها. ومن هنا فإن الحدود لم تعد خطوطًا على خريطة بل تُفهم كقنوات عبور ومناطق تماس يمكن استثمارها لإعادة ضبط التوازن الجيوسياسي في المنطقة.
المنطق الذي يدفع هذا المشروع ليس فقط أمنياً، إنه إعادة حساب لمستقبل إقليمي تُعاد فيه كتابة الفواصل بين النهر والبحر. بالنسبة للاعبين الذين يضعون الخرائط في أدراج مغلقة، الأردن غالباً ما يظهر لهم كقطعة أرضية قابلة لإعادة التشكيل، ممرّ استراتيجي، قاعدة لوجستية، أو مساحة تُعاد هندستها سياسياً ضمن ترتيبات أكبر. في ضوء هذا، ثبات المظهر الأردني ككيان سيادي مستقل لا يتناسب مع بعض التصورات الاستراتيجية الجديدة التي ينوون إتخاذها، لذا يُنظر إليه كحاجز ينبغي إزالته أو احتواؤه.
تحولات من هذا النوع لا تحدث عبر طلقة رصاص.بل ستتكوّن خطوة وراء أخرى، ضغط سياسي مقنّع بإتفاقيات وتسويات تُعرض في مكاتب القرار الدولية، أدوات اقتصادية تُوظّف لتقويض قدرة الدولة على المناورة، قواعد عسكرية أو ترتيبات استشاريةٍ يمكنها أن تتحول سريعاً إلى منصات ضغط؛ وسياسات إعلامية تهيئ أرضية قبول داخلي لتغييرات يصعب تراجعها لاحقاً. وكهذا بهذا المنوال، يتحول الحضور الأجنبي من مجرد وجود لوجستي إلى عنصر يؤثر في قرار السيادة والطابع الاستراتيجي.
لكن السيناريو لا يكتمل دون الفاعل الشعبي، ذلك العنصر الذي تشكل حضوره أو غيابه الفارق بين حالة صمود أو هشاشة. التاريخ يكشف أن المساحات الوطنية لا تُبنى فقط بالإدارات، بل بشبكات اجتماعية مترابطة تُقدّم شرعية الدولة وديناميكية مقاومتها للضغط الخارجي. انهيار هذه الشبكات أو تهميشها يجعل أي قرار خارجي أكثر سهولة في التطبيق، في حين أن وجود مجتمع متماسك أمام أي محاولة لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية يزيد تكلفة أي مشروع توسعي وعلى الشعب أن يعي ذلك جيدا.
المعركة الحقيقية، إذن، هي معركة شرعية وقدرة على المناورة. و ليس بالضرورة أن تبدأ بالأسلحة، قد تبدأ باتفاقيات أمنية تبدو في ظاهرها مطلبية لظروف آنية، وبمبادرات اقتصادية تبدو كإنقاذ للوضع الإقتصادي المتردي، ثم تتحوّل إلى قيود استراتيجية لا تُرى بوضوح إلى أن تصبح واقعاً مفروضا. وفي هذا الإطار تصبح السيادة مطلباً تصعب إدارته عندما تحضر قوى إقليمية ودولية تحسب مصالحها بحسب خرائط جديدة، لا بحسب قواعد ما قبلها.
ما يزيد من خطورة المشهد هو أن ما يتعرض للخطر ليس حدوداً مادية فحسب، بل سلسلة من الثوابت الرمزية والسياسية،و العلاقة التاريخية مع فلسطين، ومكان الأردن كحلقة وصل بين محطات استراتيجية بالمنطقة، والدور المتقلب الذي يمكن أن تمارسه أي قوة تحاول إعادة توزيع النفوذ. هكذا يصبح مصير بلد ما مرتهناً ليس فقط بقرار واحد، بل بسلسلة من اختيارات دولية وإقليمية تتضافر في تشكيل واقعٍ جديد.
ويصبح الرهان الإستراتيجي هنا مزدوج، أولاً، قدرة أي مشروع خارجي على تحقيق ما يصبو إليه دون دفع كلفة سياسية أو أمنية مرتفعة، وثانياً، قدرة الداخل على الحفاظ على هامش المناورة الشرعية والسياسية والاقتصادية. فإنْ تعاظمت الضغوط الخارجية و تراجعت القدرة الداخلية على الإحتواء، يصبح الخيار أمام الدولة ليس مجرّد إدارة تفاصيل بل مواجهة إعادة ترتيب شامل لملفّاتها.
في النهاية، لا يمكن اختزال المشهد إلى لعبة ثنائية بين احتلال ورفض، إنه ساحة متعددة الطبقات تُدار فيها السياسات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية في آن واحد. وفي هذه اللعبة، تتحوّل الخريطة إلى ساحة اختبار للتوازنات الدولية، وتصبح كل خطوة داخلية أو خارجية مفصلية في تحديد ما إذا كانت المنطقة ستشهد تحوّلاً استراتيجياً أم ستستمرّ في إحكام توازن هشّ قابِل للانفجار.
الخلاصة الوحيدة الواضحة في هذا المشهد المعتم،هو أن التحولات التي تجري ليست عابرة ولا محاطة بمهلة زمنية يُتوقع نهايتها بسهولة. إنها محاولة لإعادة تعريف فضاء جغرافي وسياسي له جذور تاريخية عميقة. ومسألة البقاء في ظل هذه التحولات ليست مجرد اختيار تكتيكي، بل استحقاق استراتيجي يتطلّب قراءة دقيقة للخرائط المرسومة تحت الطاولة وفهماً عميقاً لتوظيف الأبعاد غير العسكرية في مشاريع القوة الحديثة.
وفي النهاية، من العبث أن يهدد الأردن بذريعة حماية فلسطين، أو أن تُفكك الدولة الأردنية بدعوى الحياد. فهذه الأرض كانت وما زالت خط الدفاع الأول عن القدس، ودرعًا حيويًا لفلسطين، لكنها أيضًا وطن قائم بذاته، لا يقبل أن يُذبح قرباناً في معبد التسويات، ولا أن يُختزل إلى ممرّ آمن لمشروع إسرائيل الكبرى المقنّع بثوب اعترافات الدولة الفلسطينية الوهمية.
الأردن يبقى.. بقيت فلسطين، وإن سقط، سقط الشرق العربي كله.
تُغلق غزة.. يُفتح باب عمّان، الحرب الصامتة على المملكة* د. ميساء المصري
9
المقالة السابقة
