لم تكن الدعوات الأخيرة للاعتراف الفوري بدولة فلسطينية حدثًا معزولا، بل جاءت امتدادا لسلسلة من التحركات البرلمانية البريطانية التي تعكس تغيرا تدريجيا في المزاج السياسي داخل المملكة المتحدة تجاه القضية الفلسطينية، ولم تكن المبادرات البرلمانية البريطانية الداعية للاعتراف بدولة فلسطين وليدة اللحظة أو مدفوعة بانفعالات آنية، بل جاءت تتويجا لمسار طويل من التراكمات السياسية والإنسانية التي شكلت وعيا جديدا داخل المملكة المتحدة، فقد تزايدت الفظائع على قطاع غزة حيث قُتل أكثر من 64 ألف شهيد من رجال ونساء وأطفال وتكاثرت الاتهامات باستخدام التجويع كسلاح حرب، في ظل عجز صارخ للمجتمع الدولي عن إيقاف آلة القتل، هذا الواقع المأساوي ساهم في اهتزاز الثقة بالوساطة الغربية التقليدية وفتح الباب أمام مراجعة جذرية للموقف البريطاني.
ففي عام 1917، أصدرت بريطانيا وعد بلفور الذي تعهدت فيه بدعم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، دون أي اعتبار لحقوق السكان الأصليين الفلسطينيين وهذا الوعد الذي شكل الأساس السياسي لقيام دولة الاحتلال الصهيوني لاحقا، ينظر إليه اليوم على أنه أحد أبرز مظاهر الظلم التاريخي الذي ساهمت فيه بريطانيا تجاه الشعب الفلسطيني، ولهذا فقد قام نواب بريطانيون بنشر رسالتهم الأخيرة و لم يتجاهلوا هذا الإرث بل أشاروا إليه صراحة، مؤكدين أن الاعتراف بدولة فلسطين سيكون بمثابة تصحيح لمسار تاريخي خاطئ، وتجسيد لمسؤولية بريطانيا كقوة منتدبة سابقة على فلسطين، كما شددوا على أن دعم بريطانيا لحل الدولتين لم يترجم إلى خطوات عملية، وأن الاعتراف الرسمي سيمنح هذا الموقف مصداقية حقيقية لتصحيح المسار وللأمر الواقع.
في الوقت نفسه، بدأ المزاج الشعبي داخل بريطانيا يتحول، لاسيما بين الشباب والناشطين السياسيين، الذين باتوا أكثر حساسية تجاه القضايا الإنسانية والحقوقية، حيث ارتفعت أصوات منظمات حقوق الإنسان، ومعها مواقف جاليات بريطانية مسلمة ويهودية مناهضة للاحتلال، تطالب بالعدالة ورفع الظلم، ما عزّز الزخم البرلماني داخل مجلسَي العموم واللوردات.
وعلى تصاعد الدعوات البرلمانية، فإن الحكومة البريطانية اضطرت برئاسة، كير ستارمر، ليقف موقفا نهائيا أشار فيه إلى دعم لندن للاعتراف النهائي بدولة فلسطين والتي جاءت مشروطة بوقف إطلاق النار في غزة وتخفيف المعاناة الإنسانية، ومع ذلك فإن ستارمر نفسه أكد أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يجب أن يكون جزءا من خطة سلام أوسع ، لكنه لم يحدد جدولا زمنيا وهذا التردد يفسر على أنه محاولة لموازنة الضغوط الداخلية والخارجية وخشية من الولايات المتحدة التي لا تزال تعارض الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية المزمعة.
ومع هذا فإن بريطانيا التي لطالما كانت حذرة في مواقفها، تجد نفسها الآن أمام خيارين، إما اللحاق بالركب الأوروبي أو الاستمرار في التردد، ما قد يفقدها مصداقيتها الأخلاقية والدبلوماسية وهكذا في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه المصالح، تبرز لحظات نادرة يكون فيها القرار السياسي أكثر من مجرد موقف، فدعوة النواب البريطانيين للاعتراف بدولة فلسطين ليست مجرد رسالة، بل هي صرخة في وجه الظلم، ومطالبة بإعادة الاعتبار لشعب طمس وجوده لعقود طويلة مضت.
في المقابل جاء إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاعتراف بلاده بدولة فلسطينية قد شكل نقطة تحول في الموقف الأوروبي، ففرنسا كأكبر دولة في مجموعة السبع، قد كسرت حاجز الصمت وأعلنت أنها ستتخذ الخطوة رسميا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وهذا ما حصل رغم أن هذا الإعلان قد أثار ردود فعل غاضبة من العدو الصهيوني والولايات المتحدة، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام دول أخرى مثل النرويج وإيرلندا واسبانيا وكندا والبرتغال وأستراليا وغيرها من الدول لتشكيل كتلة ضغط دولية والعديد من دول العالم الحرّ الذين وقفوا وقفة رجولة.
