عروبة الإخباري –
في كل مرة كنت أقف فيها داخل أروقة الأمم المتحدة، وأرتّب أوراقي استعدادًا لتغطية جديدة، أسمع الصدى ذاته يتردد في داخلي قبل أن ينطق به أحد الزعماء:
إلى متى؟
لأكثر من 12 عامًا وأنا أتابع عن قرب اجتماعات الجمعية العامة خلال عملي ضمن الفريق الاعلامي لجلالة الملك ، أنقل كلمات الزعماء، وأرصد المواقف والتصريحات…
لكن كل عام كان يحمل الوجع نفسه، والسؤال ذاته، وكأن شيئًا لم يتغير سوى أرقام الشهداء واللاجئين والخرائط التي تحترق.
هذا العام، وقف جلالة الملك عبد الله الثاني مرة أخرى،
بصوته الواضح، وضميره الحيّ، أمام العالم بأسره، ليكرر ما يقوله منذ سنوات…
لكن هذه المرة، كان الصدى أعمق، والغضب أهدأ لكنه أكثر إيلامًا،
وكأن جلالته يقول: لم نعد نملك طاقة النداء، لكننا نرفض أن نصمت.
“الصمت قد يعني قبول الوضع الحالي والتخلي عن إنسانيتنا، وهو أمر لا يمكنني القيام به.”
وهنا تحديدًا، أدركت لماذا نصر جميعًا، رغم كل هذا الإحباط، على أن نصرخ في وجه العجز العالمي.
منذ أكثر من 80 عامًا تأسست هذه المنظمة العالمية، وتعهدت ألا تتكرر أخطاء التاريخ، لكن الملك، بصراحته المعتادة، أعاد تعريف الألم حين قال:
“الفلسطينيون يعيشون في دوامة قاسية جراء تكرار تلك الأخطاء.”
لم تكن هذه الكلمات مجاملة ديبلوماسية، بل صفعة للحضور النائم، وهزّة ضمير في وجه من ما زالوا يساوون بين الجلاد والضحية.
تحدث الملك عن غزة كما يليق بها:
ليس كخبر عاجل أو حملة موسمية، بل كجريمة مستمرة أمام أعين العالم،
قصف، مجاعة، آلاف الشهداء من الأطفال، ومستقبل يُمحى على مرأى العدسات… التي تمّ منعها من نقل الحقيقة.
“أكثر من 60 ألف شهيد، و50 ألف طفل بين شهيد وجريح، ومجاعة تمتد على ركام وطن.”
أي لغة يمكن أن تترجم هذا المشهد؟
أي قمة أممية تستطيع أن تُقنع أمًا بأن العالم مهتم فعلاً بمصير أبنائها؟
إلى متى… سنبكي ونتكلم ولا شيء يتغير؟
على مدى السنين، سمعت شعارات كثيرة، منها من مات قبل أن تُرفع لافتاته، ومنها من تم اغتياله بسياسة “المراحل”.
لكن جلالة الملك كان واضحًا هذه المرة:
“المشكلة ليست في المبادرات، بل في من يدفنها عمداً تحت كل قذيفة توسّع واستيطان.”
وهو لم يساوِ بين الأطراف كما يفعل كثيرون، بل سمّى الأمور بأسمائها، وقالها للعالم بأكمله:
هذه الحكومة الإسرائيلية ليست شريكًا في السلام… بل عدو لفكرته.
رغم كل الألم، كان موقف جلالة الملك مليئًا بالكرامة:
الأردن، كعادته، لا يساوم على ثوابته.
من رعاية القدس، إلى حماية المقدسات، إلى قيادة الجهود الإنسانية في غزة،
لم يكن حديثه مجرد تعبير عن موقف، بل تقرير حالة لأمة ما زالت تصرخ بلسان واحد: كفى.
أنا أيضًا… أقول إلى متى؟
أنا الاعلامية التي غطت هذا الحدث 12 مرة.
نقلت كلمات الزعماء، وجمّعت العناوين، وحرّرت الأخبار العاجلة.
لكنّي الآن أكتب كمواطنة عربية قبل أن أكون صحفية…
إلى متى سيبقى السلام مجرّد وعد على ورق؟
إلى متى سنبكي كل عام على طفلٍ جديد اسمه محمد، أو ليلى، أو يوسف؟
إلى متى ستبقى القدس بندًا في الكلمات، لا في الأفعال؟
في كل مرة أسمع فيها خطاب جلالة الملك، أعلم أن الصوت لا يزال حاضرًا، والموقف لا يزال ثابتًا.
لكن وحده الصوت لا يكفي…
إن لم يرد عليه العالم، فالعالم هو المشكلة.
