سوزان مالوني* – فورين أفيرز –
دمرت الضربات الأميركية والإسرائيلية في حزيران (يونيو) 2025 معظم البرنامج النووي الإيراني وأضعفت طهران، لكن خطرها مستمر. قد تعيد إيران بناء قدراتها سراً، فيما يبقى الحل الدبلوماسي هو الطريق الأجدى لمنع التصعيد النووي والإقليمي.
***
نادراً ما شهد التاريخ الحديث عملية عسكرية جرى التمهيد لها بوضوح وإصرار مثلما حدث مع الضربات الإسرائيلية والأميركية على برنامج إيران النووي في حزيران (يونيو) 2025. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، أطلق القادة في تل أبيب وواشنطن تحذيرات صارخة بشأن طموحات الجمهورية الإسلامية ونشاطاتها النووية، وتعهد خمسة رؤساء أميركيين بمنع طهران من تجاوز عتبة القدرة على امتلاك سلاح نووي.
وعلى الرغم من هذا التحذير المسبق والإشارات الواضحة إلى الاستعدادات الوشيكة، فإن الهجوم الإسرائيلي الأولي على البنية التحتية النووية الإيرانية، الذي تُوج بتدخل أميركي وجيز ولكنه حاسم، شكل صدمة بالنسبة لطهران ومعظم دول العالم. وقد أسهم عنصر المفاجأة في تسهيل النجاح المبهر للعملية التي قضت بسرعة على القيادة العسكرية الإيرانية، وضمنت التفوق الجوي الإسرائيلي فوق الأراضي الإيرانية، وحدّت من قدرة إيران على الرد، وألحقت أضراراً جسيمة بأهم منشآتها النووية.
في الواقع، أدى التنفيذ المتقن للعملية وغياب أي هجوم مضاد فعال من طهران أو من شبكة وكلائها الإقليميين الذين كانوا سبباً للخوف سابقاً، إلى مفاجأة أخرى: النهاية السريعة للأزمة من خلال وقف لإطلاق النار فرضته الولايات المتحدة في اليوم الـ12 من النزاع. في أقل من أسبوعين، تمكن الجهد المشترك الأميركي – الإسرائيلي من تحقيق ما كان كثيرون يظنونه مستحيلاً، موجهاً ضربة قاسية للبرنامج النووي الإيراني من دون إشعال صراع إقليمي أوسع نطاقاً. كانت الهجمات الصاروخية الانتقامية الإيرانية على إسرائيل، إضافة إلى الهجوم الاستعراضي على القاعدة الجوية الأميركية في قطر، صاخبة لكنها غير فعالة. وبالنسبة لكثيرين في واشنطن، بدا أن النتيجة كسرت لعنة التدخلات العسكرية الأميركية الفاشلة أو المحبطة في الشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الماضية.
هذه النتيجة الملحوظة زادت من انهيار الموقف الاستراتيجي الأوسع لطهران الذي بدأ في العام السابق، عندما دمرت إسرائيل أهم أصول النظام وأدواته، مثل جماعة “حزب الله” المسلحة اللبنانية، إضافة إلى انهيار النفوذ الإيراني في سورية مع سقوط نظام بشار الأسد. ومع اندلاع النزاع في حزيران (يونيو)، لم يقدم الشركاء الاستراتيجيون الظاهريون لإيران في موسكو وبكين سوى إدانات خجولة.
منذ العام 1979، عندما وصل نظام إسلاموي ثوري إلى السلطة في طهران، سعت واشنطن وحلفاؤها إلى كبح جماح إيران. وقد بلغ هذا الجهد الآن محطة مفصلية: الجمهورية الإسلامية باتت أضعف وأكثر عزلة مما كانت عليه في أي وقت خلال العقدين الماضيين. ولم تعد قادرة على فرض إرادتها في المنطقة، ولا حتى الدفاع عن حدودها وشعبها. والآن، بعد إسقاط العملاق أرضاً، قد تبرز إغراءات للإعلان عن إنجاز المهمة. وسيكون ذلك سابقاً لأوانه، حيث أصبحت إيران منهكة، لكنها لم تخرج من المعركة بعد.
ما تزال الأخطار الجسيمة التي تشكلها الجمهورية الإسلامية قائمة، وأي صراع مستمر قد يعيد تشكيل هذه الأخطار -أو حتى تضخيمها. على الرغم من الخسائر الفادحة والإذلال الذي تعرضت له إيران بسبب هزيمتها على يد ألدّ أعدائها، فإن “النظام الثوري” ما يزال متمسكاً بالسلطة بقبضة قاهرة. وقد دمرت بنيته التحتية النووية، ولكن لم تُمحَ تماماً. يذكر أن الحاجة المزدوجة إلى الانتقام وبقاء النظام قد تؤدي إلى تغذية دوافع طهران العنيفة والمزعزعة للاستقرار في الداخل وفي جميع أنحاء المنطقة، وإزالة أي شكوك متبقية بشأن ضرورة امتلاك رادع نووي.
أشار الكاتب جيمس بالدوين ذات مرة إلى أن “أخطر ما يمكن أن ينتجه أي مجتمع هو الإنسان الذي لم يعد لديه ما يخسره”. وقد ينطبق هذا الوصف الآن على الرجال الذين يحكمون أنقاض “النظام الثوري الإيراني”. فمع تدهور شبكة وكلائهم، وتدمير دفاعاتهم الجوية، وانكشاف تحالفاتهم مع القوى العظمى على أنها زائفة، يحتاج أوصياء الجمهورية الإسلامية المنهكة إلى أدوات جديدة تبعد الخطر الداهم. ومن الصعب التكهن بثقة بكيف ستتطور ديناميكيات الخلافات بين القوى الداخلية في أعقاب إذلال النظام، وقد تحمل المرحلة المقبلة مفاجآت أخرى. ولكن ما من شك في أن أقوى الأطراف في طهران سيسعون إلى إعادة بناء ما تبقى من برنامجها النووي، واستعادة هيمنة النظام على المجتمع الإيراني.
حتى في حالتها الحالية وهي منكسرة ومترنحة، ستبقى طهران العنيدة لاعباً خطراً ومصدراً قوياً لعدم الاستقرار وعدم اليقين في المنطقة. في الشرق الأوسط الحديث، نادراً ما أدت ضربات مدوية ضد مثيري المتاعب إلى مصالحة أو استسلام أو حتى إلى خفض التصعيد بشكل دائم. وبسبب الحرب في غزة، تصدع أي إجماع حول شكل النظام الإقليمي الجديد بين القوى المتبقية، وهي إسرائيل والسعودية وتركيا، وسيزداد تصدعاً بفعل الصراع غير المحسوم مع إيران.
في نهاية المطاف، ربما يكون لجوء إسرائيل والولايات المتحدة إلى القوة العسكرية قد سرع النتيجة ذاتها التي كانتا تحاولان تجنبها: نظام ثيوقراطي إسلامي أكثر قمعاً وعدائية، يمتلك قنبلة في القبو ولديه حسابات لتصفيتها مع جيرانه. وقد يجد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي دأب على شن حملات ضد تدخلات واشنطن الطويلة والمكلفة في الشرق الأوسط، أن استراتيجية الخروج المفضلة لديه أصبحت مجرد نجاح عملياتي آخر لا يفضي إلى تحقيق توازن سياسي مستقر.
حسابات إيران الجديدة
نشأ البرنامج النووي الإيراني كمشروع للطاقة المدنية في سبعينيات القرن العشرين، على يد نظام الشاه بهلوي الموالي للولايات المتحدة والمهووس بالهيبة، على الرغم من التحفظات والمخاوف الأميركية بشأن احتمالية الانتشار النووي. بعد ثورة 1979، اعتبر حكام إيران الجدد أن هذا البرنامج هو إرث من النفوذ الغربي، فأوقفوه بشكل شبه كامل. ومع ذلك، استمرت بعض البحوث النووية، وبعدما تعرضت الثيوقراطية الناشئة لغزو من عراق صدام حسين في العام 1980 وانخرطت في حرب استنزاف وحشية، عاد الاستثمار في البنية التحتية النووية إلى الظهور كمصدر مناسب للطاقة الرخيصة، وبسط النفوذ، وردع أي أعمال عدائية مستقبلية.
على مدى العقود الأربعة التالية، طورت الجمهورية الإسلامية برنامجاً نووياً على نطاق صناعي، أخذ يحدد تدريجياً هوية النظام وعلاقته المتوترة مع القوى الغربية. وقد ركزت مساعي إيران النووية في مرحلة ما بعد الثورة على الاكتفاء الذاتي التكنولوجي والقدرات المحلية، لكنها توسعت بحلول أواخر التسعينيات لتشمل جهوداً سرية مكثفة لاكتساب القدرة على صنع الأسلحة. وبعدما شهدت عن كثب الهجوم الإسرائيلي في العام 1981 الذي دمر جزئياً مفاعل أوزيراك النووي العراقي، أدركت القيادة الإيرانية تماماً حجم الأخطار. ومع بدء إدارة جورج دبليو بوش الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، علقت طهران عملها على التسلح النووي.
لقد اتسم نهج طهران بهذا الحذر منذ البداية. وكثيراً ما استند القادة الإيرانيون إلى فتوى دينية تحرم استخدام أسلحة الدمار الشامل أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي في العام 2003. ومع ذلك، وكما أقر أكبر هاشمي رفسنجاني في العام 2015، الذي شغل منصب رئيس إيران من العام 1989 إلى العام 1997، “لم يغب عن بالنا قط أنه إذا تعرضنا للتهديد يوماً ما، وأصبح ذلك ضرورياً، فيجب أن نكون قادرين على سلوك الطريق الآخر”. وبعدما انخرطت إيران وإسرائيل في هجمات مباشرة متبادلة في نيسان (أبريل) 2024، ثم مرة أخرى في تشرين الأول (أكتوبر) من ذلك العام، بدأت حتى الأصوات البراغماتية نسبياً داخل النظام الحاكم في التلويح علناً بإمكانية حدوث تخصيب نووي. وأصر وزير الخارجية السابق، كمال خرازي، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، على أنه “إذا ظهر تهديد وجودي، فإن إيران ستعدل عقيدتها النووية. نحن نملك القدرة على صنع الأسلحة وليست لدينا أي مشكلة في هذا الصدد”.
في أعقاب الهجوم الأميركي الإسرائيلي المشترك في حزيران (يونيو)، قد تصبح سياسة التأمين النووي أكثر جاذبية من أي وقت مضى بالنسبة للجمهورية الإسلامية. يمكن للقيادة الإيرانية الآن مضاعفة الرهان على برنامجها النووي من خلال محاولة إنقاذ ما تبقى منه وإطلاق جهد شامل للحصول على سلاح، وإنما بهدوء أكبر هذه المرة. وستعتمد قدرتها على القيام بذلك على حالة البنية التحتية النووية الإيرانية التي تعرضت لأضرار جسيمة. وعلاوة على ذلك، قضت الضربات الإسرائيلية على كادر مهم من العلماء النوويين الذين صمموا البرنامج وأشرفوا عليه. وعلى الرغم من أن حجم الضرر ما يزال قيد التقييم، فإن القراءات الأولية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) ومن متخصصين مستقلين تشير إلى أن قدرة إيران على التخصيب تدهورت بشدة، أو حتى تعطلت تماماً. ومع ذلك، أشار بعض المتخصصين إلى أن طهران قد تعوض خسائرها وتعيد بناء برنامجها خلال أشهر أو بضعة أعوام، وأن المكونات الأساسية، مثل مخزوناتها من اليورانيوم المخصب، وأجهزة الطرد المركزي التي لم تكن قد رُكّبت أو شُغّلت في وقت الهجوم، ربما نجت من الضربات ويمكن استخدامها في برنامج طارئ لتطوير سلاح نووي في غضون عام واحد.
ستبذل إيران جهوداً لإعادة بناء برنامجها النووي من دون أي رقابة رسمية، في انتهاك لالتزامات البلد الرسمية المستمرة بموجب “معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية”. خلال الفترة القصيرة التي سَرَت فيها “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وهي الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع الولايات المتحدة وقوى أخرى في العام 2015، عرض القادة الإيرانيون بعض الشفافية مقابل السماح لهم بالحفاظ على البرنامج والحصول على تخفيف للعقوبات الاقتصادية الدولية القاسية. ولكن بعد انسحاب ترامب من الاتفاق في العام 2018، بدأت طهران بالتراجع تدريجياً -ولكن بثبات- عن جانبها من الاتفاق، بما في ذلك تقييد الوصول إلى بعض المنشآت الخاضعة للرقابة ولضمانات السلامة.
بعد الهجمات الأخيرة، أشار سياسيون ومعلقون إيرانيون إلى أن تعاون إيران السابق مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” سمح لإسرائيل والولايات المتحدة بجمع بيانات الاستهداف. ولذلك، علق البرلمان الإيراني التعاون مع الوكالة، مما دفعها إلى سحب مفتشيها المتبقين من إيران على وجه السرعة، حفاظاً على سلامتهم. وعلى المدى القريب، أو ربما فترة أطول، لن يكون هناك مَن يتحقق بشكل مستقل من وضع البرنامج النووي الإيراني.
في الماضي، اعتمدت إيران على الحذر والشفافية لحماية استثماراتها النووية، ومن ثم، ضمان بقاء نظامها. لكن هجمات حزيران (يونيو) قلبت المعادلة على الأرجح. بعد هذه الضربات، قد تكون طهران مستعدة لتحمل أخطار أكبر للحفاظ على خياراتها النووية وضمان إخفاء مساعيها عن بقية العالم. ويتفاقم هذا التحول بفعل انهيار الدفاع المتقدم الذي كانت توفره شبكة وكلاء إيران. ومع نجاح إسرائيل في تحييد “حزب الله” وسقوط حليف إيران في سورية، قد يستنتج القادة الإيرانيون أن الخيار النووي هو الخيار الوحيد المتبقي لهم.
التكاتف الوطني
سيتحدد نهج طهران تجاه برنامجها النووي بناء على تطور سياستها الداخلية في أعقاب الضربات الإسرائيلية والأميركية. فالقادة الإيرانيون شديدو الحساسية تجاه احتمال حدوث اضطرابات داخلية. وقد صورت وسائل الإعلام، التي تعمل بمثابة أبواق للنظام، نتائج الحرب التي استمرت 12 يوماً على أنها انتصار، بما أن النظام الحاكم صمد وخرج منها مستعداً للمعركة المقبلة. وقد عززت التداعيات الأولية للنزاع قبضة النظام، ويعمد قادته إلى تطبيق تكتيكات صقلوها خلال الأزمات السابقة لضمان الاستقرار في فترة يتوقع أن تكون أكثر اضطراباً في المستقبل. وتوقعاً لمزيد من الأعمال العدائية، قمع النظام الأصوات الناقدة بشكل استباقي. وتعرض معارضون، من بينهم نرجس محمدي، الحائزة جائزة نوبل للسلام للعام 2023، لتهديدات، واعتقل المئات، بعضهم بتهم تتعلق بالتجسس. وفي الواقع، تقوم السلطة القضائية المتشددة في إيران بتسريع محاكمات المتهمين بالتعاون مع إسرائيل. كما أجبر نحو نصف مليون أفغاني كانوا قد لجأوا إلى إيران خلال الحرب الطويلة في بلادهم على العودة قسراً، حيث أدى البحث عن متعاونين مع إسرائيل إلى تسريع حملة الترحيل التي بدأت في وقت سابق من العام.
على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين أكدوا أن الضربات لم تكن تهدف إلى إحداث تغيير في النظام، فإن الخطة الإسرائيلية ربما كانت أكثر طموحاً. فقد أفادت صحيفة “واشنطن بوست” بأن مسؤولين إيرانيين كباراً تلقوا مكالمات هاتفية مجهولة باللغة الفارسية تحثهم على التخلي عن النظام أو مواجهة الموت. وذكرت صحيفة “طهران تايمز”، وهي وسيلة إعلامية ناطقة باللغة الإنجليزية تصدر في إيران، أن إسرائيل أخفقت في تنفيذ محاولة أوسع لتصفية قيادة النظام، كان من ضمن أهدافها قتل الرئيس الإيراني ورئيس البرلمان وعدد من المسؤولين الآخرين.
ولكن بدلاً من إسقاط النظام أو إضعافه، يبدو أن الضربات الإسرائيلية قد أيقظت في الإيرانيين شعوراً متجذراً بالانتماء إلى وطنهم. فعلى الرغم من خيبة الأمل العميقة التي يشعر بها كثير من الإيرانيين تجاه النظام، كما يتضح من موجات الاحتجاج المتكررة، فإن التوق الشعبي واسع النطاق إلى مستقبل أفضل وقيادة أكثر مسؤولية يتعايش جنباً إلى جنب مع حس وطني عميق واستياء من الأعداء الأجانب. ومع غياب أي حركة سياسية منظمة أو شخصية كاريزمية توحد المعارضة غير المتبلورة، يبقى النظام الإسلاموي هو الخيار الوحيد المطروح.
على الرغم من أن الصراع كان قصير الأمد، فإن القصف طال 27 من أصل 31 محافظة في البلاد، وكان مكثفاً ومدمراً ومرعباً للإيرانيين. وقد فرّ الآلاف من سكان طهران بعدما نشر ترامب عبر وسائل التواصل الاجتماعي دعوة إلى الإجلاء في منتصف الليل. وتلاحمت المجتمعات المحلية بروح من التضامن لمساعدة بعضها بعضاً. وفي بعض الحالات، جاءت الضربات الإسرائيلية الرمزية بنتائج عكسية. على سبيل المثال، كان الهجوم على سجن إيفين سيئ السمعة في طهران، حيث يقبع عدد من المعارضين السياسيين، يهدف على الأرجح إلى تحفيز منتقدي النظام. ولكن عوضاً عن ذلك، أثار موجة غضب شعبي، بما في ذلك من شخصيات معارضة بارزة، لأن الضحايا شملوا أفراداً من عائلات المحتجزين ومحاميهم.
وهكذا، وجد مسؤولو النظام العزاء في رد الفعل الشعبي. في مقابلة طويلة مع وسيلة إعلامية إيرانية، تفاخر المسؤول الحكومي والمفاوض المخضرم علي لاريجاني، قائلاً: “خلافاً لتوقعات العدو بحدوث انقسامات وتصدعات داخلية، أظهرت الأمة الإيرانية، بغض النظر عن الانتماءات السياسية، لحمة لا مثيل لها. حتى بعض المعارضين للحكومة وقفوا إلى جانب السلطات”. في الواقع، لدى القيادة الحالية خبرة طويلة في إثارة المشاعر القومية، تماماً مثلما فعلت خلال الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين. وبعد وقت قصير من انتهاء الحرب التي استمرت 12 يوماً، خرج خامنئي من مخبئه ليقود مراسم دينية مهيبة. وبدأ الحدث بأداء نشيد “يا إيران”، وهو نشيد وطني يعود إلى ما قبل الثورة، عُدلت كلماته لتشمل رموزاً دينية. وظهر خامنئي مترئساً المراسم صامتاً، وبدت عليه علامات الذهول أو التأثر، أمام حشد صاخب.
وقد أثار غياب خامنئي العلني طوال فترة النزاع، وصوته الأجش خلال الكلمة التي ألقاها في أعقاب هذا النزاع، تكهنات بشأن حالته الصحية واستمرارية القيادة في النظام الثيوقراطي. وبدا حضوره على رأس السلطة آخذا في التلاشي، وقد يستغل كبار مسؤولي النظام هذه الأزمة كتجربة تمهيدية لترتيب تسليم الشعلة إلى الجيل التالي عندما يحين موعد التغيير. ومع اشتداد التنافس على النفوذ، سوف تعزز الجولة الأخيرة من الهجمات العلاقة التكافلية بين هيكل السلطة الدينية والمؤسسة العسكرية. هذا التعاون في إدارة الحرب ومرحلة عدم اليقين التي حلّت من بعدها يهدف إلى توجيه رسالة إلى خصوم النظام في الداخل والخارج بأن هذا النظام سيصمد تحت الضغط ولن يفسح المجال لأي منافس. ومن المرجح أن يُضعف ذلك آمال التغيير السياسي الجوهري بعد وفاة خامنئي.
التهديد المتنامي
بالنسبة لخصومها التاريخيين، قد يبدو ضعف إيران فرصة جذابة ومغرية. في نظر الإسرائيليين، يمثل ذلك إنجازاً بارزاً ضد عدوهم الأكثر شراسةً وفتكاً. أما بالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإن تقويض الميزات التي بدا أن إيران قد اكتسبتها في أعقاب هجمات تشرين الأول (أكتوبر) 2023 يبرر صحة هوسه الدائم بالتهديد الإيراني. وإلى جانب الانتكاسات التي أوقعها بـ”حزب الله” و”حماس”، أتاح له ذلك استعادة مكانته السياسية داخلياً بشكل كبير. بعد أعوام من الجدل والتردد الأميركي المتزايد في استخدام القوة العسكرية في الشرق الأوسط، أسهم استعداد الولايات المتحدة للانضمام إلى الحملة ضد إيران في منح الإسرائيليين إشارة طمأنة طال انتظارها بأن واشنطن ما تزال مستعدة لتحمل الأخطار من أجل تحقيق أهداف إستراتيجية.
لكن تداعيات الضربات تحمل لإسرائيل شكوكاً جديدة. فخلافاً لترامب، لا يتوهم القادة الإسرائيليون أن البرنامج النووي الإيراني قد “قُضي عليه بالكامل”، بل يتوقعون تماماً أن تسعى طهران إلى إعادة بناء قدراتها، وهم مستعدون لمواصلة الحملة لضمان عدم نجاح إيران في ذلك. وقد تؤدي السهولة النسبية التي حققت بها إسرائيل أهدافها في حزيران (يونيو) إلى الشروع في عملية شبه دائمة لـ”جز العشب” بهدف إضعاف قدرات خصومها بشكل مستمر، على غرار ما فعلته طوال أعوام في لبنان وسورية. وما تزال تلك الحملات مستمرة حتى اليوم، ويشير الإسرائيليون إلى نجاحها في إضعاف “حزب الله” والمساهمة في سقوط نظام الأسد في سورية.
ومع ذلك، فإن احتمال شن حملة عسكرية طويلة الأمد لإضعاف القدرات النووية الإيرانية سيواجه عقبات كبيرة، خصوصاً في ما يتعلق بأي دور أميركي. فقد بنى ترامب مسيرته السياسية على التشكيك في جدوى الانخراط العسكري المستمر في الشرق الأوسط. ووفقاً لشبكة “أن بي سي نيوز”، فإنه رفض خطة اقترحها قادته العسكريون كان يمكن أن تضمن إلحاق ضرر أكثر ديمومة بالطموحات النووية الإيرانية. ويدرك الإسرائيليون أن قدرتهم على متابعة نجاحهم العسكري تواجه قيوداً، خصوصاً بسبب الكلفة المرتفعة ومحدودية مخزون الصواريخ الاعتراضية التي تحتاج إليها منظومات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية من أجل حماية البلاد من الهجمات الإيرانية. وكان هذا النقص أحد العوامل المساهمة في تشكيل الحسابات الأميركية التي دفعت واشنطن إلى المطالبة بوقف إطلاق النار بعد 12 يوماً فقط.
تجدر الإشارة إلى أن مشكلات الذخيرة والميزانية ليست شأناً إسرائيلياً صرفاً، فارتفاع الطلب على الصواريخ الاعتراضية وعلى الأصول العسكرية الأميركية التي نُقلت إلى المنطقة للمساعدة في الدفاع عن الدولة اليهودية يستنزف الموارد الحيوية التي تحتاج إليها واشنطن في مناطق أخرى، خصوصاً في آسيا. وسوف تأتي إطالة أمد الصراع بين إسرائيل وإيران على حساب عزم إدارة ترامب على التركيز على حماية المصالح الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة قوة عسكرية صينية متزايدة الجرأة والحزم.
في غضون ذلك، ينظر جيران طهران إلى العمليات العسكرية المستمرة ضد إيران ويرون أخطاراً لا تحتمل من ناحية زعزعة الاستقرار والتصعيد. فالسعوديون وقادة الخليج الآخرون، المصممون على مواصلة تحويل اقتصاداتهم ومجتمعاتهم إلى مراكز عالمية للتكنولوجيا والسياحة والتجارة، سعوا في الأعوام الأخيرة إلى استيعاب طهران بدلاً من مواجهتها، بعدما أجروا حساباتهم بأن استبعادها من النظام الإقليمي لن يؤدي إلا إلى مزيد من التصرفات الإيرانية الخاطئة والتخريبية.
وقد عززت الضربات الإسرائيلية والأميركية على البرنامج النووي الإيراني هذا التوجه. فدول الخليج لا تستشعر كثيراً من الأمان بوجود عملاق جريح على حدودها. ويتذكر قادة تلك الدول الفوضى التي أحدثتها الجمهورية الإسلامية الناشئة وهي تحاول دعم مشروعها الثوري من خلال أعمال إرهابية. كما يتذكرون أيضاً الظل الذي ألقاه صدام حسين المهزوم -وإنما المتمرد- على مدى عقود عدة.
كانت الخطوة الختامية لطهران في الحرب الأخيرة، وهي وابل من الصواريخ الباليستية استهدف القاعدة الجوية الأميركية في قطر، استعراضية في معظمها. فقد حذر الإيرانيون كلاً من القطريين والأميركيين مسبقاً، ولم يلحق الهجوم ضرراً يذكر بالمنشأة التي أخليت على عجل. ومع ذلك، أكد هذا الهجوم مجدداً الخطر الذي قد تشكله إيران المعزولة والممتعضة بالنسبة لجيرانها. وقال المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، أنور قرقاش، في حوار نشرته “مجموعة الدراسات الجيوسياسية”، وهي مركز بحوث فرنسي: “رأينا في كثير من الحالات أنه عندما تشعر أمة بأنها تتعرض للهجوم، تتصاعد النزعة القومية. لا يمكننا استبعاد هذا السيناريو”، مضيفاً: “لا يمكن إعادة تشكيل المنطقة بالقوة العدوانية. قد يحل ذلك بعض المشكلات، لكنه سيخلق مشكلات جديدة. علينا أن ننظر إلى تاريخ الشرق الأوسط ودروس الأعوام العشرين الماضية. إن استخدام القوة العسكرية ليس حلاً فورياً”.
وفي السياق ذاته، فإن استمرار نتنياهو في حرب غزة، على الرغم من غياب أي أهداف عسكرية واضحة، أعاق توسيع “اتفاقات أبراهام” التي توسطت فيها الولايات المتحدة وزاد من قلق المسؤولين الأميركيين إزاء إستراتيجية إسرائيل. وتفاقمت مخاوفهم بعد الهجوم الإسرائيلي على سورية في تموز (يوليو) الماضي، الذي استهدف مبنى وزارة الدفاع وموقعاً بالقرب من القصر الرئاسي. بعد انهيار نظام الأسد في أواخر العام 2024، احتضنت واشنطن وحلفاؤها الإقليميون الحكومة السورية الجديدة، على الرغم من أن قادتها كانوا قد تحالفوا في السابق مع تنظيم القاعدة. وترى دول الخليج وإدارة ترامب في دمشق ركيزة محتملة لبناء نظام أمني إقليمي قائم على السيادة العربية. أما تركيا، فهي مستثمرة بشكل كبير، استراتيجياً واقتصادياً، في الحكومة الجديدة في دمشق، وتعتبر التحركات الإسرائيلية في سورية متعمَّدة لزعزعة الاستقرار. وقد يؤدي تصاعد العنف الطائفي في سورية، إلى جانب جهود إسرائيل لتقويض الحكومة الجديدة، إلى إثارة تنافس جديد وربما أكثر خطورة بين إسرائيل وتركيا، وإتاحة المجال أمام طهران لإعادة إحياء نفوذها في سورية وشبكتها العابرة للحدود من الميليشيات التي تقاتل عنها بالوكالة.
الأمر يستحق المحاولة
إن تآكل القوة الإيرانية يحل تحدياً قديماً، لكنه في الوقت ذاته يفتح باباً أمام مجموعة جديدة من الأخطار التي تهدد الاستقرار الإقليمي. وثمة أمر واحد مؤكد: من غير المرجح أن تتحمل واشنطن المسؤولية الكاملة عن إدارة هذا التوازن الجديد الهش في الشرق الأوسط. فلدى ترامب سجل حافل في انتقاد تورط أسلافه المكلف في الشرق الأوسط. ويمكنه الآن أن يتباهى بتدخله الناجح وانسحابه السريع من الصراع مع إيران باعتباره تكفيراً عن أخطاء أسلافه. وقال أحد مسؤولي إدارة ترمب، لم يكشف عن اسمه، لموقع “أكسيوس” بعد الضربات الأميركية في حزيران (يونيو)، إن ترامب “ليس جيمي كارتر”. وفي تصريحات أدلى بها من البيت الأبيض، استحضر ترامب نفسه عملية إنقاذ الرهائن التي انتهت بكارثة في عهد كارتر في العام 1980، وأبدى سعادته بالمقارنة واحتفل بنجاح غاراته الجوية. وأشار ترامب إلى أن “الصين وروسيا، كانتا تراقبان. الجميع كان يراقب. لدينا أعظم المعدات في العالم. ولدينا أعظم الكفاءات البشرية، وأقوى جيش في العالم”.
على الرغم من كل هذه العبارات المبالغ فيها، لم يتم القضاء على البرنامج النووي الإيراني. ويتطلب تحقيق هذا الهدف بشكل قاطع إما الدبلوماسية أو تغيير النظام، وليس متاحاً حالياً سوى الخيار الأول. كثيراً ما أصر ترامب على أنه يستطيع التفاوض على اتفاق أفضل من “خطة العمل الشاملة المشتركة” الموقعة في العام 2015. وبناءً على تصريحاته العلنية، يبدو أنه مستعد للنظر في إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية أكثر طبيعية مع طهران. وحتى لو قوبل بالرفض، فإن مجرد تقديم مثل هذا العرض قد يشكل فرصة قوية لتسليط الضوء على الفجوة بين تطلعات القيادة الإيرانية الحالية وتطلعات مواطنيها.
لن يكون وضع إطار دبلوماسي جديد لإدارة الأزمة النووية الإيرانية أمراً سهلاً. وقد ترك وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الباب مفتوحاً أمام المحادثات، مؤكداً في الوقت نفسه أن الضربات جعلت طريق التوصل إلى أي اتفاق أكثر صعوبة. ويشعر المسؤولون الإيرانيون بالاستياء من حقيقة أن جولة من المفاوضات المقررة سلفاً استُخدمت لطمأنتهم ودفعهم إلى التراخي قبل الهجوم الإسرائيلي المفاجئ. وقد أشار البعض إلى أن تدابير بناء الثقة ستكون ضرورية لإقناع طهران بالعودة إلى طاولة المفاوضات.
كان شركاء واشنطن في أوروبا قد كثفوا جهودهم خلال إدارة بايدن. وفي ظل تردد الولايات المتحدة، سعوا إلى حث “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” على توبيخ طهران لعدم تعاونها مع عمليات التفتيش ورفضها الإجابة عن أسئلة تتعلق ببرنامجها النووي. ويمكن للدول الأوروبية أن تلعب دوراً مفيداً الآن أيضاً من خلال تفعيل ما يعرف بـ”آلية الزناد” الواردة في “خطة العمل الشاملة المشتركة”، التي ما يزالون هم وإيران أطرافاً فيها من الناحية التقنية. وتعد هذه الآلية من صمامات الأمان المدرجة في الاتفاق النووي للعام 2015. وإذا فعّلها أحد أطراف الاتفاق، فستفرض على إيران مجدداً مجموعة من العقوبات الاقتصادية الصادرة عن الأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن انعدام ثقة إيران في الدول الغربية، وقدرة النظام الإيراني على الصمود في مواجهة الظروف القاسية، يعني أنه حتى هذه الأداة ستكون فعاليتها محدودة في كبح جماح قيادة إيرانية متعنتة.
إن الدبلوماسية ليست حلاً بحد ذاتها، لكن جهداً منسقاً لجذب طهران إلى حوار هادف بشأن مستقبل برنامجها النووي سيكسب بعض الوقت، ويوسع الانقسامات الحتمية داخل النظام الإيراني، ويعزز الشفافية حول المنشآت والأنظمة التي من شأنها تسهيل المسار الإيراني نحو تصنيع سلاح نووي. وهناك نظام إقليمي جديد بدأ يتشكل لم تعد فيه إيران ووكلاؤها يحتلون مركز الصدارة. وعلى الرغم من أن حرب حزيران (يونيو) نفذت ببراعة، فإن منع القنبلة الإيرانية يتطلب أكثر من مجرد مجموعة قوية من الأهداف العسكرية. ولا يمكن إخضاع النظام الإيراني بشكل دائم من خلال استخدام القوة.
قد لا يكون لدى القادة الإيرانيين سبب وجيه للثقة في إغراءات الأميركيين للدخول في حوار، لكن ترامب قد يتمكن من استغلال ازدرائه للسياسة التقليدية لتغيير السردية. ويمنحه استعداده للتدخل لصالح العملية العسكرية الإسرائيلية في إيران مصداقية فريدة وهامشاً للمناورة. قبل حرب حزيران (يونيو)، كان المفاوضون الأميركيون والإيرانيون يناقشون أفكاراً مبتكرة لتجاوز مسألة تخصيب اليورانيوم، وهي نقطة الخلاف المحورية على مدى عقود من النزاع والتفاوض بشأن الأنشطة النووية الإيرانية. ومن بين المقترحات التي ترددت، إنشاء اتحاد إقليمي للتخصيب خارج الأراضي الإيرانية، إضافة إلى استثمارات أجنبية في مرافق الطاقة النووية المدنية، وهي أفكار يمكن أن تشكل مخرجاً لهذه المعضلة، خصوصاً إذا اقترنت بتخفيف العقوبات. كما أن أي اتفاق سيحتاج إلى فرض قيود على تطوير الصواريخ الإيرانية، والسماح للمفتشين بالوصول الكامل للتحقق من امتثال إيران.
سيكون من الصعب على المسؤولين الإيرانيين تقبل مثل هذه البنود، على الرغم من خسائر الحرب. ومن أجل تعزيز صدقية أي مقترح، ينبغي على ترامب أن يواصل تأكيد رغبته في رؤية مستقبل أكثر إشراقاً لإيران وعلاقة مختلفة بين البلدين. وحتى إذا لم ينجح الأمر، فإن دعوة من الولايات المتحدة لإقامة علاقة دبلوماسية واقتصادية جديدة مع طهران يمكن أن تزرع بذور انقسام استراتيجي داخل النظام في وقت الأزمة.
مع تراجع القوة والنفوذ الإيرانيين، واحتلال التحديات القادمة من الصين الصاعدة وروسيا المتعنتة صدارة أجندة الأمن القومي الأميركي، قد يبدو خيار اللامبالاة هو الأكثر جاذبية لواشنطن. لكن هذا سيكون خطأ. فالعالم يقف على حافة عصر خطر انتشار نووي يهدد بتوسيع رقعة الأخطار الكارثية. ومن الضروري وضع مسار دبلوماسي يعيد فرض الشفافية على المشروع النووي الإيراني، ويخلق مخرجاً للهرب من عاصفة التصعيد التي تتربص بخفاء في طيات الهدوء الظاهري المريب الذي خيّم بعد الحرب.
*سوزان مالوني: نائبة رئيس معهد بروكينغز ومديرة برنامج السياسة الخارجية فيه. عملت مستشارة خارجية لوكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية في إدارة أوباما، وعضواً في فريق تخطيط السياسات التابع لوزير الخارجية الأميركي في إدارة جورج دبليو بوش. الترجمة العربية لصحيفة “الإندبندنت”.
