كنتُ أجلس وحيداً، أستمع لخطابها الأخير، فإذا بكلماتها تُشعل في داخلي ناراً ودمعة، وتفتح في قلبي نوافذ فلسطين، كأن صوتها مرآة لضمير الكون، في الأزمنة التي ينطفئ فيها ضوء العدالة، يبحث العالم عن كلمة صادقة تُعيد للإنسان صورته. وحين وقفت جلالة الملكة رانيا العبدالله، لم تكن ملكة تكرّر بياناتٍ رسمية، بل كانت الضمير العربي الذي حمل فلسطين في صوته، وواجه صمت العالم ببلاغة القلب. غزة لم تعد مجرد اسم مدينة، بل تحوّلت على لسان جلالتها إلى مرآة تعكس سقوط القيم، وانكشاف زيف الإنسانية حين تكيل بمكيالين.
لقد تحدثت جلالتها إلى الضمير العالمي لا كسياسية تدافع عن قضية، بل كأمّ تبصر اولادها في ملامح أطفال غزة، وهذا التحوّل هو الذي أعطى كلماتها قوة تشبه الطعن في قلب العالم المنافق، لأن الحقيقة حين تُقال من فمٍ مخلص، تُربك كل هندسات التضليل، وتعيد ترتيب المعنى. في كل جملة، كانت الملكة رانيا تُعرّي صمت العواصم الكبرى، وتضع الإنسانية أمام امتحانها الأصعب: هل ما زال الدم الفلسطيني يُحسب دماً؟ أم أن الإنسان يُقسَّم إلى درجات، فيُمنح بعضهم صكوك النجاة، ويُترك آخرون فريسة تحت الركام؟
جلالتها لم تنقل المأساة، بل أعادت كتابتها. لم تكن غزة على لسانها رقماً في نشرات الأخبار، بل وجوهاً حيّة، وأحلاماً سُحقت، وطفولة اغتيلت وهي تحمل لعبة بين يديها. لقد منحت الضحايا حضوراً يتجاوز الشاشات، وأجبرت العالم على رؤية ما يحاول أن يشيح بوجهه عنه. وهنا يكمن جوهر الدور: أن تتحوّل الكلمة إلى مرآة، والمرآة إلى صرخة، والصرخة إلى مرجع أخلاقي لا يمكن إسكاته.
الملكة رانيا، وهي تخاطب العالم، لم تنفصل عن إرث الأردن الممتد في فلسطين. فهي ليست شاهدة على مأساة جارة، بل على جرحٍ يسكن الوجدان الأردني منذ عقود. وفي صوتها، كانت القدس وظلالها، وغزة المحاصرة، ورام الله ونابلس، واللاجئون الذين حوّلوا خيامهم إلى أوطان مؤقتة. كلهم كانوا هناك، في نبرة واحدة، تختصر معنى الانتماء وصدق الموقف. لقد جعلت جلالتها من موقعها منصةً للحق، ومن خطابها مرجعاً للكرامة، ومن دمعتها بياناً أقوى من كل التحليلات الباردة.
ولأنها لم تكن تتحدث من خلف جدار السياسة وحده، بل من نافذة إنسانية مفتوحة، وصلت كلماتها إلى قلوب الملايين. في الغرب، لم يستطع كثيرون إنكار صدى ما قالت، حتى لو لم يجرؤوا على الاعتراف علناً. وفي الشرق، وجد الناس أنفسهم يصفقون لصوت يشبه أصواتهم حين تختنق، ويمثل دموعهم حين لا تجد طريقها إلى الضوء. لقد اختارت أن تكون شاهدة للتاريخ، لا متفرجة، وأن تُعلّم العالم أن فلسطين ليست قضيةً مؤقتة، بل اختباراً لإنسانية كل جيل.
إن مأساة غزة التي أعادت جلالتها تعريفها، لم تعد حدثاً محصوراً بالزمان والمكان، بل تحولت إلى علامة فاصلة: إما أن يُستعاد فيها المعنى الإنساني، أو ينكشف سقوط الحضارة. ولهذا كانت كلماتها أبعد من خطاب سياسي، وأعمق من موقف عابر؛ كانت لحظة صدقٍ نادرة، تُشبه تلك الشموع التي تضيء وسط عتمة دامسة.
الملكة رانيا، يا صاحبة الجلالة، إن ما قلتموه لم يكن دفاعاً عن فلسطين فقط، بل دفاعاً عن معنى الإنسان في هذا العصر. لقد جعلتم من غزة مرآة للعالم، ومن صوتكم نداءً يلاحق الضمائر، ومن حضوركم علامةً على أن الصمت جريمة، وأن قول الحق واجبٌ حين يصير العالم رهينة مصالحه. لقد حملتم الوجع بكرامة، وحوّلتم الدموع إلى قوة، وأثبتم أن الموقف الشريف لا يحتاج إلى سلاح، بل إلى صدق لا يعرف المساومة.
ولعل الأجيال القادمة، حين تقرأ تاريخ هذا الزمن، ستجد أن صوتكم كان من بين الأصوات القليلة التي لم تخن الحقيقة. سيذكرون أن ملكة من الأردن وقفت وقالت للعالم: إن حياة الفلسطيني لا تقل عن حياة أي إنسان آخر. سيذكرون أنكم، في زمن النفاق، رفعتم راية الصدق. وسيعرفون أن ما تركتموه لم يكن مجرد خطاب، بل إرثاً للكرامة، ووثيقةً من نور تحفظ لفلسطين مكانتها في قلب الأمة. إنكم، يا صاحبة الجلالة، لم تُضيئوا غزة بكلماتكم فحسب، بل أنرتم درب الإنسانية في زمنٍ مظلم. وهكذا، تبقى شهادتكم مرجعاً، ويبقى صوتكم شموخاً، وتبقى فلسطين في قلوبكم نبضاً لا يخفت.
الملكة رانيا صوت الإنسانية النابض* د. محمد العرب
7
