عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية –
انتظر اللبنانيون عودة الموفد الأميركي توم براك وكأنها لحظة مفصلية، وتحمل وضوحاً في خريطة الطريق المقبلة، لكن ما وصلهم بدا أبعد من الدبلوماسية التقليدية.
ظهر براك عصبي المزاج، متوتراً في نبرته، وأطلق تصريحات مشبعة بالإنذارات والمواعيد الملزمة للحكومة اللبنانية، محدداً مهلة لتقديم خطة حول سلاح “حزب الله”. وزاد من حدة المشهد أسلوبه الصدامي مع الصحافيين، إذ تعامل بفوقية أثارت موجة غضب، مما جعل زيارته محملة بقدر من الاستفزاز والتشويش أكثر مما حملت من تطمينات.

هذا المشهد المربك بين توقع اللبنانيين تسويات ونبرة براك المتشنجة يفتح الباب على تساؤلات جوهرية، ماذا لو رفض “حزب الله” التجاوب مع هذه المواعيد الملزمة؟ وأية سيناريوهات تنتظر لبنان بين الضغط الاقتصادي والتصعيد الأمني أو محاولة إيجاد تسوية وسط؟
في الشكل، تحول المؤتمر الصحافي الذي عقده الموفد الأميركي في بعبدا (مقر رئاسة الجمهورية اللبنانية)، إلى ساحة مواجهة لفظية غير محسوبة. ففي لحظة انفعال، وصف براك سلوك الصحافيين اللبنانيين بأنه “حيواني”، محذراً من أنه سيغادر إذا استمرت الفوضى. وهذا التعبير، الخارج عن أصول اللياقة الدبلوماسية، فجّر غضباً عارماً في الوسطين الإعلامي والسياسي. وطالبت نقابة المحررين باعتذار رسمي، كما عبرت رئاسة الجمهورية عن أسفها لما صدر عن المنبر الرسمي، واشتعلت مواقع التواصل بتعليقات اعتبرت كلام براك إهانة جماعية ووصمة استعلاء.
وفي المضمون، فإن الهرج والمرج اللذين أعقبا المؤتمر لم يبددا مضمون الرسالة السياسية التي حملها براك وحسب، بل ألقيا بظلال من الشك حول قدرته على القيام بدور “الوسيط المتوازن” في ملف حساس كملف السلاح.
ماذا حمل فعلياً؟
طلب أن تقدم الحكومة اللبنانية في الـ31 من أغسطس (آب) الجاري “خطة لإقناع ’حزب الله‘ بالتخلي عن السلاح”، على أن تقابلها ورقة إسرائيلية متزامنة لجدولة الانسحاب من الجنوب إذا تولى الجيش اللبناني الانتشار وتثبيت السلطة، مقابل شبكة أمان اقتصادية – اجتماعية مكملة ومنطقة اقتصادية خاصة في الجنوب بتمويل أولي تبدي بعض الدول العربية استعداداً له، وتخلق وظائف لبيئة الحزب وللمسلحين المسرحين ضمن برامج إعادة إدماج ومهارات، كجزء من “الهندسة الانتقالية” لما بعد التفكيك. كذلك أعلن السيناتور الأميركي ليندسي غراهام خلاصة الموقف الأميركي من الوضع اللبناني – الإسرائيلي “لا انسحاب من جنوب لبنان قبل نزع سلاح ’حزب الله‘ بالكامل”. كما التزم جميع أعضاء الوفد الأميركي التشديد على دعم لبنان في تطبيق قرارات الحكومة، مما يعني أن هذه القرارات يجب أن تطبق، وإلا فلن يكون هناك أي تغيير أو مساعدات.
وكشف رئيس مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان السفير إد غبريال خلال حديث إعلامي عن أن الحوافز ستحل بدلاً من الضغوط، فواشنطن تدرك أن إقناع الطائفة الشيعية بالتخلي عن السلاح يتطلب ضمانات ملموسة، وتتمثل هذه الحوافز في إعادة إعمار الجنوب، بما يشمل ترميم المنازل والبنى التحتية، وخلق وظائف جديدة توفر دخلاً ثابتاً وتحسن مستوى المعيشة، إضافة إلى تأمين الأمن والرفاه الاجتماعي، مما وصفه غبريال بأنه “الأهم بالنسبة إلى الشيعة”. وقال “إذا تشاورت الولايات المتحدة مع شركائها في الخليج وفرنسا ولبنان وآخرين، فيمكنها أن تخلص إلى خطة مهمة جداً تظهر أن أمن الشيعة سيؤمن دائماً إذا نزع ’حزب الله‘ سلاحه”.
لا مقايضة بين السلاح والأمن المعيشي
هذا الطرح الذي يربط بين الأمن المعيشي والاستقرار السياسي، في معادلة يراها الأميركيون قادرة على تغيير الحسابات داخل الطائفة، فكم من المعقول أن يساوم الحزب وبيئته على السلاح مقابل النهضة الاقتصادية في لبنان؟ يذكر الأكاديمي والمتخصص في الحركات الإسلامية قاسم قصير أن “الحزب حدد موقفه أنه لا يمكن البحث في مستقبل السلاح قبل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات الإسرائيلية وإطلاق الأسرى والبدء بالإعمار”، ويقول “أما الحديث عن منطقة اقتصادية أو إعمار أو تسليح للجيش، فهذا لن يغير الموقف، وأستبعد أن تجري مساومة السلاح بالنهضة الاقتصادية”.
والوعود التي أطلقها براك بتمويل منطقة خاصة وفرص عمل وتمويل برامج تحويل مهارات، وفتح أبواب دعم دولي وخليجي، مشروطة بترسيم مسار نزع السلاح وبتعزيز دور الجيش اللبناني، وهو لمّح صراحة بتفضيل تمويل الجيش على توسيع دور “يونيفيل” (قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان).
موضوع تسليم السلاح في طهران
ويشير الكاتب والمحلل السياسي محمد بركات إلى أنه “من الواضح أن خطاب الشيخ نعيم قاسم (الأمين العام لـ’حزب الله‘) كان حاسماً بأنه يرفض التسوية التي هي تسليم السلاح مقابل إعادة الإعمار وتسليح الجيش وازدهار اقتصادي تحديداً في الجنوب، حتى مع انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس، فإن قاسم كان واضحاً أن السلاح باقٍ مهما فعلت إسرائيل، وهذا في تصويب مباشر على الرئيس نبيه بري (رئيس مجلس النواب) الذي حصل على ضمانات من توم براك بالانسحاب، في حال سار لبنان بمبدأ الخطوة مقابل الخطوة. ورفض قاسم هذا المبدأ هو إعلان صريح أنه حتى لو إسرائيل قامت بالخطوات الأولى فهو لن يقوم بأية خطوة مقابلة”. ويردف أن “هذا يعني أن إيران هي التي تريد مقعداً على الطاولة وأن ’حزب الله‘ يقول للمجتمع الدولي ولأميركا وللبنانيين إن إيران هي التي تقرر وليس الحكومة التي اتهمها بأنها عميلة، ولا رئيس مجلس النواب ولا رئيس الجمهورية (جوزاف عون)، بمعنى واضح أن المسألة في طهران. وبطبيعة الحال فإن البيئة لن يكون لديها صوت مختلف، إلا حين يتبلور مشروع سياسي آخر، وهذا يحتاج إلى دعم جدي لبنائه”.
هل يكفي المقابل الاقتصادي وحده لنزع سلاح “حزب الله”؟
ربما يكون المقابل الاقتصادي عنصراً مساعداً، لكنه غير كافٍ وحده لأسباب بنيوية، فالسلاح هو هوية وعقيدة وسياق إقليمي، وهو ليس وظيفة فقط بل هوية تنظيمية – تحالفية مع إيران ومعادلة الردع العابرة للحدود. ومن الممكن أن تخفف الحوافز الاقتصادية كلفة الدخول المسلح في القواعد، لكنها لا تقنع القيادة بالتخلي عن “سبب الوجود” وهو السلاح، وأي تحول يتطلب حزمة ضمانات أمنية داخلية وخارجية كقدرة جيش لبناني معزز فعلياً وتعهد إسرائيلي ملزم ومتحقق على الأرض بوقف الخروقات والانسحاب المرحلي وآلية رقابة دولية محكمة وليس فقط وعوداً، وحتى الآن فإن المؤشرات تقدمية لكن مشروطة.
دور طهران
ومن البديهي القول إنه من دون تفاهم واضح مع إيران على تخفيف وفك التمويل والتوجيه العسكري، ستبقى كلفة التخلي عن السلاح أعلى من أية منطقة اقتصادية، مما شدد عليه براك نفسه، أي على معالجة الأثر الاقتصادي على المقاتلين الممولين إيرانياً، وهو إقرار بأن المشكلة أعمق من “وظائف”، كما أن التجارب المقارنة تظهر أن التسريح وإعادة الإدماج لا ينجحان بلا تزامن بين وقف النار وانسحاب “العدو” وعدالة انتقالية محدودة وحوافز فردية وجماعية. وتتحدث الخطة الأميركية عن مراحل ومؤتمر اقتصادي ختامي، وهو اتجاه صحيح، لكن تحقيقها مرهون بالتنفيذ المتبادل أي خطوة مقابل خطوة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي سمير سكاف “يحاول توم براك أن يقدم حوافز وبدائل وتطمينات مالية لبيئة ’حزب الله‘، ويقصد بذلك طبعاً إعادة الإعمار وإنشاء منطقة اقتصادية وازدهار، لدفع بيئة الحزب إلى القول إن هناك مستقبلاً زاهراً للمنطقة والجنوب، وستكون هناك استثمارات عربية وخليجية لتحويل الأفكار من البقاء في المنظومة العسكرية ومن العداء لإسرائيل، وهو بذلك يخرج المنطقة من دائرة أن تكون ساحة عسكرية، لتصبح ساحة اقتصادية. وهو أشار خلال حديثه أيضاً إلى إمكان الحوار مع إسرائيل، للوصول إما إلى تطبيع أو سلام أو أي شيء آخر، واعتبر أن الحديث مع إسرائيل أصبح واجباً. وكل هذه الأمور تعني أن براك يقدم إغراءات مالية واقتصادية لبيئة الحزب للتخلي عن مشروع ’حزب الله‘ والتخلي عن رعاية إيران. لذلك أعلن براك أن الحزب كان، على مدى زمن طويل، يعيش ويتطور ويعمل بتمويل إيراني، وهو يقدم الآن البديل للتمويل الإيراني، وهو تمويل عربي. ويعتقد براك بأن للمنطقة مستقبلاً ويمكن أن يؤدي هذا إلى ازدهار وخلق فرص عمل للشباب. كل هذه الأمور لإخراج بيئة وجمهور الحزب من الهالة العسكرية للحزب، وفتح آفاق جديدة وتطلعات مزدهرة اقتصادياً ومالياً وإعمارياً، ويكون كل ذلك في الجنوب اللبناني ضمن ظروف اقتصادية ممكن أن تكون مريحة بعد انسحاب إسرائيلي، وبعد تسليم سلاح الحزب. وهذا ما وعد به براك”. ويتابع أن “بالنسبة إلى نزع سلاح ’حزب الله‘ بطريقة غير عسكرية، فستكون هناك صعوبة بالتأكيد في هذا الموضوع لأن الحزب لن يوافق على رغم كل العروضات والتطمينات الاقتصادية والإغراءات المالية لبيئته، ولا يمكن أن يوافق على أي شيء مما تقدم به توم براك لأن تسليم السلاح بالنسبة إليه غير وارد”. ويستدرك سكاف قائلاً “هل هذا سيؤدي إلى صدام مع الجيش اللبناني؟ الحزب قال إنه مستعد لحرب ’كربلائية‘، يعني حرباً يمكن أن تصل إلى الدم، وإذا أراد الجيش اللبناني انتزاع سلاحه بالقوة، فهو مستعد لخوض هذه المعركة حتى لو احتاج الأمر إلى مواجهة الجيش، وإن كان بالمبدأ لا يريد الذهاب إلى هذه المواجهة، ولكن من وجهة نظره إذا أرادوا سحب سلاحه فهم يفرضون عليه المعركة، بالتالي هو مستعد لخوضها”.
إذاً، ما الذي قد يجعل “عرض براك” قابلاً للحياة؟
من المفترض أن تُحوّل الوعود إلى جداول تنفيذية معلنة، أي تواريخ ونقاط تحقق ومراقبة ثالثة محايدة وربط تمويل المنطقة الاقتصادية بصرف مرحلي مقابل إنجازات أمنية ملموسة، إضافة إلى تحصين الجيش اللبناني عبر مساعدات مضمونة وسريعة وشفافة، وتجهيز الحدود وتفويض سياسي واضح يوازي أي انسحاب إسرائيلي مرحلي.
لكن هذا بحاجة إلى مظلة إقليمية وفتح قنوات تفاهم مع طهران، حتى إن كانت غير علنية، لتخفيف “كلفة الانفصال” عن السلاح. ومن غير ذلك يتحول العرض الاقتصادي إلى حافز ناقص، وكل ذلك يجب أن يترافق مع حماية مدنية ومعالجة للملفات الحساسة كالأسرى والمفقودين ومناطق التماس وعودة النازحين للقرى الحدودية وتعويضات الأضرار، وهذه ملفات ترتبط مباشرة بشرعية أي مسار داخلي.
في المحصلة زيارة براك حملت “سلة” مترابطة، واعتمدت مهلة سياسية قصيرة وتعهداً بانسحاب إسرائيلي مقابل خطوات لبنانية قابلة للقياس، جزرة اقتصادية ممسوكة بأموال عربية وخليجية وممرات إنسانية وإقليمية قيد الطبخ. لكن الاقتصاد وحده لا ينزع سلاح “حزب الله”، وما قد يغيّر المعادلة هو حزمة شاملة، ضمانات أمنية مثبتة وتمكين حقيقي للجيش وتفاهم إقليمي (إيراني) ولو ضمني وتسلسل تنفيذ صارم خطوة مقابل خطوة. من دون ذلك، سيظل العرض الاقتصادي رافعة ضغط مهمة، لكنه غير كافٍ بمفرده لتحويل العقيدة والسلاح إلى وظائف ومناطق حرة.
