عروبة الإخباري –
في عالمٍ عربيّ ندر فيه التعمّق الجاد في قضايا الأمن الإفريقي وصراعات الجماعات الجهادية خارج نطاق التغطيات الخبرية، تُطلّ الإعلامية والباحثة ميساء عبد الخالق بإصدارها النوعي «القاعدة وداعش وصراعهما في الساحل الإفريقي»، كأول عمل فكري باللغة العربية يُقدم معالجة تحليلية شاملة لهذا الملف شديد التعقيد والحساسية.
الكتاب لا يُعد مجرد سبق بحثي، بل فتح جديد في أدبيات الدراسات الأمنية باللغة العربية، فهو أول مؤلَّف من نوعه يخرج من إطار التنميط والتبسيط، لينفذ بعمق إلى جذور الصراع الجهادي بين تنظيمين عملاقين، تحوّلا من “تحالف عقدي” إلى “حرب شرسة على الشرعية والوجود”. وبين تضاريس الصحراء الكبرى، والمجتمعات المنسية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ترسم ميساء عبد الخالق خريطة الصراع بالحبر والقراءة، لا بالرصاص.
تأتي أهمية الكتاب من كونه ليس فقط جهدًا بحثيًا ناضجًا، بل أيضًا انعكاسًا لشجاعة فكرية نادرة. فأن تتصدّى كاتبة عربية لموضوع بهذا الحجم والدقة، وتخوض فيه بلغتها وأدواتها وتحليلاتها الخاصة، هو إعلان ضمني عن بداية تحول في الإنتاج المعرفي العربي تجاه الملفات الإفريقية، التي طالما ظلت رهينة الأقلام الغربية.
الباحثة عبد الخالق، هنا لا تقدم عملًا صحافيًا تقريريًا، بل تُثبت أنها تكتب بعين الباحث وضمير الصحافي ومسؤولية المثقف. وقد استطاعت في هذا الإصدار أن تضع اللبنة الأولى في مشروع عربي لمقاربة الإرهاب من زواياه المهملة: من الهامش الجغرافي، من الجرح الاجتماعي، ومن خرائط الصراع الصامت.
بجرأة علمية ووعي إنساني، تُمهّد عبد الخالق الطريق أمام جيلٍ جديد من الباحثين العرب للالتفات إلى الجنوب، حيث النار تشتعل بصمت، والعالم يشيح بوجهه.
ففي زمنٍ بات فيه الإرهاب عابرًا للحدود والجغرافيا، تبرز الكاتبة والإعلامية ميساء عبد الخالق كصوتٍ فكريٍّ جاد، لا يكتفي برصد الظواهر، بل يسعى إلى تفكيكها وتحليل بنيتها العميقة. يأتي كتابها «القاعدة وداعش وصراعهما في الساحل الإفريقي» ليؤكد أن الكتابة الأمنية والتحليل الاستراتيجي لم تعد حكرًا على المراكز الغربية أو الأقلام الذكورية، بل إن عقلًا عربيًا نسويًا قادرٌ على اقتحام أكثر الملفات وعورةً وتعقيدًا.
ما يُحسب لعبد الخالق في هذا الإصدار هو جرأتها المنهجية، فهي لا تسرد الأحداث كمجرد مجازر على الخريطة، بل تضعها ضمن سياقها التاريخي والجيوسياسي والإنساني. تغوص في عمق الصحراء الكبرى، حيث تتشابك مصالح الجماعات المسلحة مع خيوط الفقر والتهميش والتدخل الدولي، وتُظهر كيف أن التطرف لا يولد في الفراغ، بل يتغذى على هشاشة الدول وانكسار المجتمعات.
ليس من السهل على كاتبة عربية أن توازن بين الصرامة الأكاديمية والأسلوب السلس الجاذب، لكن عبد الخالق تفعل ذلك ببراعة. لغتها مشدودة، بعيدة عن الإنشائية، متماسكة في طرحها، وتُظهر اطلاعًا واسعًا على تقارير استخباراتية، وأدبيات حركات العنف المعاصر، دون أن تغرق في الجفاف التقني.
أما الأهم، فهو أن الكتاب يُقدِّم رؤية من داخل المنطقة العربية حول ما يحدث في فضاء الساحل، وهو ما نفتقده في غالب التحليلات المستوردة. تنجح الكاتبة في أن تكون شاهدًا ومحللًا في آن، تستنطق الأرض ولا تكتفي بترجمة صوت الآخر.
في كتابها الأول، تؤسس ميساء عبد الخالق لنموذج جديد من الباحثة العربية ـ الصحافية، التي لا تخشى التورط في الأسئلة الصعبة، ولا تكتفي بالتحليل السطحي. بل تمضي، كما تقول، إلى “العمق الرملي للصراع”، حيث تتواجه الخرافة بالسلاح، والإيديولوجيا بالدم.
إنه كتاب جدير بأن يُدرَّس، لا فقط لما يحويه من معلومات، بل لما يطرحه من سؤال وجودي حول مستقبل الأمن العربي والإفريقي، وحدود الفهم لما نسمّيه إرهابًا.