ما فتئت قضايا الحرب والسلام تذكّرنا أن قرارا بجرة قلم أو بلمسة على الألواح الذكية أو مجرّد همسة عبر خطّ آمن لهاتف أحمر، كفيل بأن يقلب حياة الناس رأسا على عقب.
من رحمة الله، خالق الجبال التي لم أر مثيلا لها إلا في الأفلام الوثائقية وبرامج التسويق السياحي، من رحمته سبحانه أن جعل لها غايات أخرى غير إخفاء منشآت وأسلحة وذخائر الدمار الشامل، ومنها التسبب بتقطّع الإشارة وانقطاع التغطية فيها وحواليها كليا.
قبيل اندلاع حرب «الاثني عشر» يوما، كان العالم يحتفل بعيد الأب. شاء المولى عز وجل، وبفضله ومن بعده سبحانه، أسرتي، فرضَ إجازة عائلية، قرروا أن تكون خارج بلاد العم سام، شمالا في منتجعات كندية. أتقنوا إخفاء الترتيبات اللوجستية عني، رغم توسلاتي بإرجاء السفر أو لحاقي بهم بعد أسبوع على الأقل، ليقيني أن الضربة الخاطفة «الاجتراحيّة» الأمريكية آتية لا ريب فيها، حتى قبل تلك اللطمة الصاعقة التي وجهتها إسرائيل لإيران، على نحو فاق ما حل بأذرعها مجتمعة، منذ كارثة السابع من أكتوبر 2023.
رغم استشعاري الحرج عادة، في طرح أي موضوع خاص من على هذا المنبر الكريم ووسائل الإعلام بما فيها الحسابات الخاصة على التواصل الاجتماعي، إلّا أنني ارتأيت الاستثناء هذه المرة، لتوكيد نقاط تعنينا جميعا في حياتنا الشخصية والمهنية والوطنية.
بداية، ليس في الاستراحات اليومية والأسبوعية والإجازات الموسمية والسنوية حرج، حتى في أكثر المناسبات شدة. الإنسان أكثر ما يكون بحاجة لصفاء الذهن في الملمّات حتى يلملم ويستجمع قواه العقلية والنفسية والجسدية، فيحسن الرصد ومن ثم التشخيص، ومن بعد التحليل، فصنع القرار واتخاذه، وأخيرا تنفيذه على أفضل وجه. مقولة أن فلانا لا ينام الليل ولم يأخذ إجازة في حياته فيها الكثير من التجني والظلم، ولطالما أفضت إلى كوارث، فكثير من إصابات العمل والقرارات الكارثية لم يتم أخذها برأس بارد، الرؤوس الحامية والمرهقة سيان في التأثير السلبي على القرار. الحميّة لا تعني ارتفاع نبضات القلب، فذلك اضطراب عالي الكُلَف على الإنسان وكل من سيطالهم أي قرار عاما كان أم خاصا.
بعد الحديث عن أهمية الفصل بمعنى الانقطاع عن العالم الخارجي، والتركيز على الذات، وعلى من نحيا بهم وفداء لهم، ألا وهي الأسرة النووية والممتدة، تأملت كثيرا في إحدى مقولات ترمب بخصوص الجارة الشمالية، كندا. ليس كل من انتخب المرشح الجمهوري الأمريكي دونالد ترمب ثلاث مرات مؤيدا له «بالثلاثة» في كل شيء. نحن لسنا شعبا واحدا! جيران و»حبايب» ويمكن «قرايب»، لكن أمريكا هي أمريكا، وكندا هي كندا. ثمة فوارق كثيرة، لكن ما يجمع أكثر. ملف الهجرة الشرعية وغير الشرعية فيه تباين، وكذلك العمالة الوافدة، والقضية الأكثر أهمية، المواطنة وهوية البلاد.. للأسف ثمة تحسس بلغ التوتر والاضطراب، وأكثر من ذلك فيما يخص ما يوازي «الهيسبانكس أو اللاتينو» في كندا، وهم الهنود، خاصة من طائفة السّيخ والديانة البوذية. من القوى الاقتصادية الاجتماعية الوازنة هناك المنحدرون من جامو وكشمير المتنازع عليها بين القوتين النوويتين الهند وباكستان.
ثالث النقاط اللافتة هي ذلك السلام والانسجام بين الأضداد وحتى المتحاربين في ذلك الجزء من العالم ومن مشرقنا العظيم، الواعد بعون الله. الناس غير الناس في المنتجعات. «الرَّواق» السائد يوحي لك وكأنك في «رِواق» خارج المكان والزمان! شهدت محبة وسلاما وحسا مرهفا بين أقارب من يوغلون في قتل بعضهم بعضا في أماكن أخرى من العالم. لن أدخل في الجنسيات والأعراق والأديان والطوائف، لكن شهدت ما يستدعي التغطية الميدانية المباشرة وربما التوثيقية، لولا احترام خصوصية الناس سيما خلال الاستجمام. تذكّرت على متن حجرة التّلِفريك الزجاجية في أحد المنتجعات بالخير والحنين عجلون، ربوة الأسد الرابض أو المتأهّب الربضيّة، وتملّكتني مشاعر دفّاقة بالكتابة في الشؤون السياحية بما يذهب عن نفسي الحزن والأسف، عما تسببه حروب الآخرين -وفق أجنداتهم وتوقيتاتها الخبيثة- من الإصرار على استهداف المواسم السياحية في ذروتها كل عام، على نحو يثير الفضول ويحث الناس على التفكّر، ويحضّ الخبراء منهم على التدبّر وحسن التدبير، استباقيا ووقائيا..
المبدأ الأهم هو أن الفرح والاستراحة والاستجمام لا تناقض بينها أبدا وبين حزن الإنسان نفسه، وليس مجرد الشعور مع الآخر. تلك سُنّة الحياة، وهكذا جَبَل الله الناس أجمعين، جَبَلَنا الرحمن الرحيم خالق الناس أجمعين والكائنات -حتى أَحاديّة الخلية- على الحرص على البقاء، فالنماء، فالتميّز. هذا حق وواجب لا مِنّةً من أي كان. وهذا دور الثقافة والإعلام وقادة الرأي، خاصة المؤسسات الدينية والتربوية التعليمية في تصحيح مفاهيم مغلوطة متراكمة على نحو مدمّر، عبر قرون!
والختام فيما سأكرس له المزيد، في المقبل من الأيام. حربنا المقدسة ضد السموم، المسماة المخدرات. تملّكني الإحساس بالحنق والسخط والاشمئزاز، ومشاعر الاستهجان والاستنكار والازدراء، عندما رأيت محلا مرخّصا على قارعة الطريق لبيع «الحشيش والماروانا» على أطراف أحد المنتجعات في الطريق إلى شاليهات الاستجمام، وقد كانت معظمها مخصصة للأسر، بما فيها تلك المفضلة من قبل الشباب، طبعا الشباب الكندي والأممي! تشعر وكأن العالم كله يحتفل بعيد الأب الذي صادف ثالث آحاد حزيران.
أي عذر لتلك التجارة البائسة، وأي حكمة وراء أولئك السياسيين و»الأطباء» -الذين تكالبوا عالميا- لشرعنة وقوننة السموم ادّعاء بأن هناك نوع خفيف «لايت»، ونوع ضار وآخر قاتل؟! اتّضح بشكل قطعي أن ذلك الخفيف ما هو إلا صنّارة لاصطياد الضحايا وعبوديتهم، وسوْقهم مكبّلين إلى سجن أو قبر.
أمقت -وأجاهر بذلك- أولئك المختفين خلف أوهام وأضاليل الأعذار، فيقال أن الكآبة سبب الإدمان مثلا، والفقر أو القمع سبب التطرف والإرهاب. لا صحة على الإطلاق لذلك. فكم من الفقراء المظلومين المقهورين ما كانت ظروفهم إلا دافعا لتميّزهم وإنسانيتهم.
صدق من قال إن في السفر منافع جمة، خاصة وعامة. لكن ما قد يفوقها نفعا، هي تلك الأسفار التي تفتح الآذان والعيون والأفواه.. لم تغب عن بالي في منتجعات بانف وشلالات تاكاكاو وأثاباسكا، وبحيرات بيتو وبو وجاسبر وسْبِرِت ولويس ومورين، لم تغب عن قلبي البترا ووادي رم ووادي الموجب وأم قيس وعجلون وضانا والأزرق وجبال جلعاد ومؤاب والشراة والعقبة.
الأردنيون في الوطن والمهجر قادرون على تقديمها كلها وبأدق التفاصيل للعالم كله، وجني المليارات منها تعزيزا لاكتفائنا فاستقلالنا المالي، بعيدا عن أي شيء لا علاقة له بصناعة السياحة والاستثمار في قطاعاتها كافة، وأهمها السياحة الروحية (الدينية)، الأسرية، العلاجية، فالبيئية. لدينا معجزة اسمها المغطس شرقي نهرنا المقدس حيث عمّاد السيد المسيح، ولدينا البحر «الميت»، الشاهد الحي على عظمة الخالق الذي يقضي فيحيل العذاب إلى رحمة وبركة ونعمة..
خارج التغطية الأمريكية الكندية!!* بشار جرار
2
المقالة السابقة