عروبة الإخباري – الكاتبة بسمة الخطيب –
أثناء عودتها إلى البيت، وقد شفاها المشي من الصداع، شعرتْ بأنّ الطريق “القادوميّة” مختلفة. لمست حضوراً غريباً، وتنسّمت رائحة بحر ودماء حيض دافئة رغم الكمامة. ثمّة من مرّ على هذه الأعشاب ومسح نداها، وترك صدفاً مخروطيّ الشكل صغيراً خلف خطواته. أم لعلّها طالما كانت هنا هذه الأصداف؟!
عند عتبة الباب جلست امرأة مسندة رأسها إلى صرّة قماش قديمة وضعتها بين صدرها وركبتيها المثنيّتين.
“أهلاً”، قالت ندى بصوت بحّه الحداد والصمت الطويل.
رفعت المرأة المكمّمة الفم والأنف رأسها ووقفت بنشاط لا يوحي به مظهرها. تحرّك شيء داخل ملابسها أو صرّتها، أو ربّما شعرها. شيء له صوت الشاردات الخائفات من الظلمة والرياح. أرخت طرف منديلها عن أنفها وفمها وقالت بصوت منكسر: “أهلاً. أبحثُ عن حسينة”.
وضعت ندى دلوَي الحليب البقريّ الطازج على الأرض بارتباك، حتّى كادا أن يقعا. واجهتِ المرأةَ الغريبةَ جسداً لجسد. شعرت للحظة بأنّ إحداهما على الأقلّ قد تاهت من زمنها.
“ابنة حسينة تقصدين. حسينة رحلت قبل سنوات عديدة”.
بدا وجه المرأة لطيفاً ومريحاً، وإن لم يساعد على تخمين عمرها. فقد كانت تبدو طفلة وشابّة وكهلة وعجوزاً في آن، وكأنّ عمرها كلّه، بكافّة مراحله، ممهور على وجهها.
أصرّت الغريبة: “بل هي حسينة”.
مسحت ندى قطرة مطر عن خدّها ونظرت إلى السماء، بينما انقلبت تعابير الغريبة من الثقة إلى الحيرة وقالت: “ربّما ابنتها”. ثمّ شرحت وهي تُحكِم ربط صرّتها: “الأسماء كلّها واحدة. أريد المرأة التي تجيد الحياكة”.
تابعت أصابعَ ندى وهي تتلقّى قطرتي مطر أخريين وسألتها: “أنتِ؟”
هزّت ندى رأسها بالنفي وقالت: “لا. ليس تماماً. تفضّلي إلى البيت، ستمطر”. طرقت الباب طرقتين. حين همّت بتكرار الأمر انتبهت من غفلتها. أخرجت المفتاح بارتباك وفتحت. أدخلت الغريبةَ ثمّ تبعتها مع دلوَي الحليب. وهي تغلق الباب ارتجّ قلبها وجلاً.
“أمطار الربيع لا تُؤذي”، قالت الغريبة بصوت متهدّج كأنّه يمطر الحروف بتؤدة ومن دون أذيّة. تقدّمت بثقة نحو صالة البيت، وأدارت ظهرها لباب المشغل، حيث كان والدا ندى يمضيان جلّ وقتهما.
قالت بصوت رقيق ومنكسر: “أحتاج إلى المساعدة. إنّه أمر ملحّ للغاية”.
تعاطفت ندى مع المرأة الموشكة على البكاء. أشارت لها أن تجلس على الصوفا. جلستا متقابلتين، وراحت الضيفة تحاول إخفاء عروق إحدى يديها بيدها الثانية الأكثر شباباً. وضعت رجليها تحت عباءتها ذات المخمل البخس الذي ظهرت أسفله حاشية غير مألوفة النسيج.
تكرّر الرنين الخافت.
قالت: “لي أمانة عند حسينة أو أميرة، أم لعلّها مهجة؟! لا يهمّ. المهمّ أنّني أوصيتها أن ترتق مزق قطعة نسيج طويلة، وتحافظ عليها من العثّ وانحلال قُطبها. أريد استرداد الأمانة”.
أخرجت من صرّتها منديلاً مطويّاً وفردته، فإذا هو من الكروشيه البديع البالغ الدقّة. قالت: “هذه أمارة. عيّنة”.
شهقت ندى وسرعان ما قفزت من مكانها لتلمس القماش بيديها قائلةً: “ما أروعه!”
“هو كذلك. شُغِل قطبةً قطبةً بدمع العيون ووهج النذور”.
جلست ندى قرب المرأة وسألت وهي تتابع تفحّص النسيج: “ما هو؟ حرير؟ أم قطن؟ أم قنّب؟”
“جميعها، ولكن للأسف أتلفها الزمن قليلاً”، قالت وهي تلمس الخيوط وكأنّها تواسيها. ثمّ راحت بتلقائيّة تحكي عن الطريق الشاقّة التي قطعتها لتصل إلى هنا: “أتيتُ من بلاد بعيدة، مررتُ بحروب وأسوار وأسواق نخاسة وسجون وأوبئة، نهبتُ الأهوالَ نهباً. فدادين من الأهوال… آه! أوبأت البلاد كلّها، من أعلى الصدع إلى أدناه!”
قالت ندى متهرّبة من تلك الكلمات المُبهمة: “آسفة، حسينة رحلت قبل عقود. قتلها زلزال عام 56″…
قاطعتها: “إذاً ابنتها أميرة”.
“رحلت هي أيضـ”… أوقفت الغصّةُ جملَتَها.
“إذاً أنتِ”، قالت المرأة بهدوء من يعرف كلّ شيء ولا يُبدي دهشةً لأيّ خبر، وكأنّه سبق أن تألّم وصُدِم على وقعه. وضعت يدها على يد ندى اليمنى، فسرى دفء حميم فيها، لم تشعر به منذ وقت طويل.
طأطأت ندى رأسها ونزعت كمامتها ثمّ شعرت بجبينها ينحني فوق كتف المرأة ويرتاح هناك، فانفلتت ضفيرتها وزلقت الربطة من شعرها الناعم المتدلّي حتّى ترقوتيها. تضوّعت من كتف المرأة روائح الزيتون في المعاصِر وشموع الأديرة، والأبخرة المتصاعدة من الشرانق وهي تُغلى في المياه الساخنة تسبقها روائح أدخنة الكرخانات ورائحة اسطبل خيول وأعشاب ضفّة نهر ورذاذ زبد…
كادت ندى تغفو، أو لعلّها سهت بالفعل ورأت كلّ تلك الصور النفّاذة الروائح في سهوها. ثمّ رفعت رأسها، لتعدّل جلستها. وضعت يدها بتعجّب على شعرها لتكتشف أنّ المرأة عقصت لها نصف ضفيرة مُحكَمة. ابتسمت المرأة وأشارت لندى أن تستدير لتكمل لها الضفيرة، فانصاعت بسرعة، وقالت وهي تلمس المنديل: “سأجده وأصلحه. تعلّمتُ الكروشيه والخياطة في صغري. كنت أحوك في أوقات فراغي إلى أن”…
“إلى أن ماذا؟”
فكّرت قليلاً ثمّ تابعت: “انشغلتُ بتنفيذ ما توجّب عليّ. ما طُلب منّي”.
“ماذا طُلب منكِ؟”
“تحقيق حلم أمّي أن أصير طبيبة، وحلم أبي أن أتزوّج”.
“وحلمك أنتِ؟”
أُحرجت ندى ولم تعثر على إجابة. نظرت إلى المنديل وتخيّلت أحلامها تنبت بين زخارفه: أطفال يلهون بين بساتين خوخ وكرز، وشاطئ قريب يتردّد هدير أمواجه بين ضحكاتهم، وأرجوحة من سيقان الياسمين…
توقّف المطر في الخارج وانقشعت الغيوم بتثاقل. أحكمت المرأة عقد ذيل الضفيرة الرفيع وأرختها على ترقوة ندى اليسرى. التفتت الأخيرة مذهولة ونظرت مليّاً إلى عينيّ المرأة الزيتيّتي اللون وما بدا من شعرها الحائر بين الفضّي والذهبيّ وحواشي منديلها المنمّقة.
وكأنّ ندى كانت تحت تأثير بخّور منوّم واستيقظت فجأة. سألت ضيفتَها بريبة: “ألم نتقابل سابقاً؟ أشعر بأنّني أعرفك”. حافظت المرأة على صمتها الهادئ. لم ترمش، لم يرتخِ جفناها العلويّان المشدودان.
تلاحقت صور غامضة في رأس ندى المثقل بأوجاعه، وقالت بلهجة أكثر توتّراً: “من أنتِ؟ ما اسمكِ؟”
أخذت الغريبة المنديل ووضعته على رأس ندى، فتدلّى حول خدّيها المرصّعين بالنمش العسليّ الذي فاض من لون شعرها. أجابت بهدوء: “أخبرتكِ أنّ الاسم لا يهمّ. سأرحل قبل الظلام. الوادي لم يعد آمناً”.
تحوّل وجه المرأة إلى الوجه الأكثر ألفة. حاولت ندى أن تصرخ باسم أمّها، لكنّ ألماً شديداً صعق رأسها. سقط المنديل عن شعرها وغمرت أشعّة الشمس الضيفةَ، فأعمت بصر ندى وأجبرت رموشها على الإطباق. ما عادت ترى شيئاً من شدّة النور.
(٢٠٢٣)
مقطع من رواية قيد الإصدار للكاتبة بسمة الخطيب