عروبة الإخباري –
مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، تعود عجلة الاستحقاقات الديمقراطية المحلية إلى الدوران بعد سنوات من التأجيلات المتكررة التي فرضتها الأزمات الاقتصادية والصحية والسياسية.
تأتي هذه الانتخابات وسط تحديات ضخمة: تدهور الوضع المعيشي، تردي الخدمات الأساسية، الهجرة الكثيفة للشباب، وخراب واسع طال مناطق الجنوب بفعل الاعتداءات الإسرائيلية.
واقع الترشح: بين الحق المشروع واستثمار النفوذ
قانونًا، يشكل الترشح للانتخابات البلدية حقًا ديمقراطيًا مكفولًا لكل مواطن لبناني، يهدف إلى إشراك الأفراد في إدارة الشؤون المحلية، وتطوير قراهم ومدنهم.
غير أن الواقع اللبناني المأزوم ألقى بظلاله على هذا الحق، ليُفرغ العملية الانتخابية جزئيًا من جوهرها، حيث تحولت البلديات إلى أدوات سياسية أو اقتصادية تخدم مصالح فئوية أو شخصية أكثر مما تخدم الصالح العام.
أنماط الترشح اليوم تتوزع إلى ثلاث فئات رئيسية:
مرشحون مدعومون من الأحزاب السياسية التقليدية الذين يسعون لترسيخ مواقعهم وتوسيع نفوذهم المحلي.
مرشحون مستقلون أو مجموعات ناشئة من المجتمع المدني تحاول فرض مقاربات جديدة قائمة على الشفافية والإدارة الرشيدة.
أفراد ترشحهم دوافع مصلحية بحتة: مناصب وجاه اجتماعي، عقود ومشاريع بلدية مربحة، أو حتى تعزيز زعامة عائلية وطائفية.
الشعارات المرفوعة: خدمة المواطن… ولكن؟
الخطاب الانتخابي يكاد لا يختلف بين المرشحين: “تحسين الطرقات”، “تأمين الكهرباء والمياه”، “دعم المدارس”، “تفعيل النشاطات الإنمائية”… كلها شعارات رنانة تُرفع في كل دورة انتخابية.
لكن التجربة السابقة أثبتت أن هذه الشعارات غالبًا ما تتبخر بعد الانتخابات، لتعود البلديات إلى حالة من الإهمال الإداري والفساد المالي، مع بعض الاستثناءات المضيئة التي تؤكد إمكانية التغيير إذا توفرت الإرادة السياسية الحقيقية.
الجنوب نموذجًا: إرادة الحياة رغم الدمار
تكتسب الانتخابات في الجنوب هذه السنة بعدًا خاصًا، في ظل الدمار الكبير الذي خلفته الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة.
رغم الظروف القاسية، يُظهر سكان الجنوب إرادة قوية للمشاركة في الانتخابات كخطوة ضرورية نحو إعادة الإعمار وإعادة انتظام الحياة المحلية.
لكن هنا أيضًا، الصراع بين القوائم المدعومة من قوى سياسية كبرى (حزب الله وحركة أمل) والمبادرات المدنية المستقلة سيكون حادًا، خاصة في بلدات منكوبة تبحث عن مشاريع إنمائية عاجلة أكثر من بحثها عن الشعارات السياسية.
تحديات ما بعد الانتخابات
سواء فاز المستقلون أو الأحزاب، تبقى البلديات في لبنان أمام تحديات ضخمة:
غياب التمويل الكافي من الدولة.
تراكم الديون البلدية.
هشاشة التخطيط الحضري.
ضعف آليات الرقابة والمحاسبة.
تفشي الزبائنية والمحسوبيات.
وبالتالي، فإن نجاح أي مجلس بلدي مستقبلي لن يعتمد فقط على نيات أعضائه بل أيضًا على قدرتهم على إدارة الأزمات، استقطاب الدعم الدولي، وبناء شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المحلي.
فرصة أم فخ؟
الانتخابات البلدية في لبنان اليوم هي فرصة لإحداث تغيير محلي فعلي، لكنها أيضًا قد تتحول إلى فخ لإعادة إنتاج شبكات السلطة والفساد إذا لم يحسن المواطنون اختيار ممثليهم.
الكرة الآن في ملعب الناخبين الذين عليهم ألا يكتفوا بالاستماع للشعارات، بل أن يحاسبوا المرشحين على برامجهم، سيرهم الذاتية، ومشاريعهم الواقعية.
ربما تكون هذه الانتخابات اختبارًا مبكرًا لما يمكن أن يحمله مستقبل الحياة السياسية اللبنانية:
هل سيتغلب منطق المواطنية على منطق الزعامة؟ أم أن عجلة الفساد ستبقى تدور في حلقة مفرغة؟
