باتريك لورانس* – (كونسورتيوم نيوز)
دمرت الضرورات التي فرضتها جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة ما تبقى من نزاهة لدى وسائل الإعلام الرئيسية الأميركية. وهم الآن يدمرون مؤسسات التعليم العالي ووزارتي العدل والأمن الداخلي والقانون الأميركي تمامًا.
* * *
ثمة بعض الأشخاص الذين يستحقون الاستشهاد بهم واقتباسهم هذا الأسبوع. وهم يتحدثون عن أمور مختلفة، لكننا عندما نضع كل تفاحهم وبرتقالهم في سلة نكتشف أنهم ينتمون إلى بعضهم بعضا، وألوانهم الزاهية تضعنا في مواجهة تحدٍّ: لقد حان الوقت للقيام بشيء ما -وهو ما لم يفكر فيه سوى عدد قليل جدًا منا حتى الآن.
سأل رشيد الخالدي، في مقال رأي لاذع نُشر في صحيفة “الغارديان” البريطانية: ”هل ما تزال كولومبيا تستحق اسم جامعة؟”. طرح الخالدي هذا السؤال بعد أن استسلمت الجامعة التي درَّس فيها لسنوات عديدة لمطالب نظام ترامب بأن تتخلى عن الحرية الأكاديمية وحرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات، بينما تُخضِع برامجها الدراسية للنطاق السياسي. وكان كل هذا ردًا على الاتهامات بأن معاداة السامية منتشرة بين الطلاب الذين يتظاهرون ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية لفلسطينيي غزة.
الخالدي -وثمة بعض العدالة الشعرية هنا- هو أستاذ إدوارد سعيد الفخري للدراسات العربية في جامعة كولومبيا. ومن بين كتبه “حرب المائة عام على فلسطين” The Hundred Years’ War on Palestine (متروبوليتان، 2020). وفي ما يلي جزء مما نشره في صحيفة “الغارديان”:
”لم يكن الأمر يتعلق أبدًا بالقضاء على معاداة السامية. كان الأمر يتعلق دائمًا بإسكات فلسطين. هذا ما كان يُفترض دائمًا أن يؤدي إليه تكميم أفواه الطلاب المحتجين، والآن تكميم أفواه أعضاء هيئة التدريس…
”كان الأمر دائمًا يتعلق بحماية الأكاذيب الوحشية والمكشوفة القائلة بأن حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية التي استمرت 17 شهرًا على الشعب الفلسطيني بأكمله كانت مجرد حرب على ’حماس‘، أو أن أي شيء تم القيام به في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 يبرر المذابح المتسلسلة التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 50.000 شخص في غزة، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني من وطنه...
“هذه الأكاذيب، التي أنتجتها إسرائيل وممكّنوها، والتي تتغلغل في نظامنا السياسي ونخبنا الثرية، كررتها إدارتا بايدن وترامب بلا توقف، كما رددتها صحيفة ’نيويورك تايمز‘ وقناة ’فوكس نيوز‘، وحظيت الآن بمباركة رسمية من جامعة كانت عظيمة ذات مرة…”.
عندما اعتقل حمقى إدارة الهجرة والجمارك محمود خليل، قائد مظاهرات العام الماضي في جامعة كولومبيا، قال الأمن الداخلي في البداية إنه “شارك في أنشطة متحالفة مع ’حماس‘”. واستشهدت وزارة الخارجية لاحقًا ببند في “قانون الأعداء الأجانب” للعام 1798، مؤكدة أن وجوده “ستكون له عواقب سلبية خطيرة محتملة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
تمثيلية هزلية
في الأسبوع الماضي، أضاف نظام ترامب مزاعم جديدة ضد محمود خليل، مؤكدًا أنه حجب معلومات عن الوقت الذي تقدم فيه بطلب للحصول على وضع الإقامة الدائمة في العام الماضي. وحتى صحيفة ”نيويورك تايمز” التي يشرف عليها الصهاينة ترى الحيلة في هذا الزعم. وذكرت الصحيفة أن “إدارة ترامب يبدو أنها تستخدم المزاعم الجديدة جزئيًا لتجنب قضايا ’التعديل الأول‘ التي أثارتها قضية السيد خليل”.
وسط هذه المناورات القانونية، أعلن الرئيس دونالد ترامب على منصته للتواصل الاجتماعي: “نحن نعلم أن هناك المزيد من الطلاب في كولومبيا وجامعات أخرى في جميع أنحاء البلاد شاركوا في نشاط مؤيد للإرهاب ومعادٍ للسامية وأميركا، ولن تتسامح إدارة ترامب مع ذلك”.
منذ ذلك الحين، اعتقل مسؤولو إدارة الهجرة والجمارك -مسؤولو إدارة الهجرة والجمارك الملثمون- طالبة في جامعة تافتس، روميسا أوزتورك، على أساس الأسباب نفسها: أوضح متحدث باسم وزارة الأمن الداخلي هذا الأسبوع أن “أوزتورك انخرطت في أنشطة لدعم ’حماس‘، وهي منظمة إرهابية أجنبية تستمتع بقتل الأميركيين”. وتم إخبار مسؤولي جامعة تافتس بأنه تم إلغاء تأشيرة أوزتورك.
وقرأتُ الآن أنه تم القبض على مرشح لدرجة الدكتوراه في جامعة ألاباما يوم الثلاثاء، وجهت إليه تهمة مماثلة. علي رضا درودي هو إيراني يقيم في الولايات المتحدة بتأشيرة طالب.
تأمَّل هذه الأحداث وما يقوله مسؤولو نظام ترامب عنها.
دمرت الضرورات التي فرضتها جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة ما تبقى من نزاهة لدى وسائل الإعلام الرئيسية الأميركية. وهم الآن يدمرون مؤسسات التعليم العالي ووزارتي العدل والأمن الداخلي والقانون الأميركي تمامًا.
وكل هذه المؤسسات تمضي قدمًا -أو تتظاهر بالمضي قدمًا- كما لو أنه لا يوجد شيء خاطئ وأن الأمور لم تصبح كلها في حالة فوضى على الإطلاق. تتظاهر وزارة العدل بأنها عادلة؛ وتتظاهر وزارة الأمن الداخلي بأنها تحمي الوطن؛ ويتظاهر نظام ترامب بأنه يتصرف بشكل قانوني؛ ويتظاهر مسؤولو كولومبيا -وهنا ينضم العديد من المستسلمين الآخرين مثلهم- بأنهم حراس التحقيق الفكري الحر وضمان خطاب غير خاضع للرقابة في حرمهم الجامعي.
ما المدى الذي قطعته أميركا في الخروج عن الواقع بطريقة قد تكون غير مسبوقة في التاريخ إلا للإمبراطوريات في عقود أفولها؟ إن مجرد كون هذا سؤالًا جديًا -وأنا أعتبره كذلك- هو دليل كافٍ على أن هذه الرحلة الوطنية المنحرفة قد بدأت بالفعل.
أفكر في مقال كان قد نشره آرثر ميلر في عدد 30 كانون الأول (ديسمبر) 1974 من “مجلة نيويورك”. وقد شكل فيلم “سنة الانهيار” نظرة طويلة ومؤلمة وراءً إلى العام 1949، حيث رأى الكاتب المسرحي الشهير أن أميركا ما بعد الحرب بدأت تضل طريقها. كتب ميلر: “لم يعد هناك شيء يمكن أن يكون كما يبدو”. هذه واحدة من بين العبارات التي تتبادر إلى الذهن الآن: لا شيء في حياتنا العامة يمكن اعتباره ما يتظاهر بأنه يكونه -بأنه هو نفسه بطريقة موثوقة.
في ما يلي المقطع الكامل من مقال ميلر الذي أشير إليه. الحذف (…) من وضعي.
”ثمة نسيج داخلي شرع في التمزق… سوف ندخل فترة ما يسميه اللاهوت البيوريتاني ’الأدلة الطيفية‘…
”يمكن القول بأن ثمة حقبة قد انتهت عندما تستنفد أوهامها الأساسية… لقد بدأ تراجع في الثقة القديمة في العقل نفسه؛ لم يعد هناك شيء يمكن أن يكون كما يبدو… جاء نوع من السريالية السياسية يرقص عبر أنقاض ما كان تقريبًا عالمًا أخلاقيًا وعقلانيًا بشكل جميل… أخذ المكان كله يصبح غير إنساني، ليس فقط لأن الخوف غير المعتاد كان ينتشر بسرعة كبيرة، ولكن أكثر لأن أحدًا لا يعترف بأنه خائف”.
والآن أجيء إلى سيميوس كوغنيتيوس، الذي ينشر مدونة خاصة من مزرعته في وسط ماساتشوستس (رجل محظوظ). كتب مؤخرًا:
”بالنسبة لجميع الأشخاص العقلاء والعقلانيين، فإن ما يتم تعريفه الآن رسميًا وقانونيًا بأنه ’معاداة للسامية‘ في أمتنا التي كانت فخورة ذات يوم، ولكنها سقطت الآن بشكل مثير للشفقة، تم رفعه الآن إلى مرتبة ’الواجب الأخلاقي‘.
”الطريقة الوحيدة لأي فرد للحفاظ على سلامته العقلية في أمتنا المحطمة أخلاقيًا، والتي تعلن الآن رسميًا أنه من غير القانوني التعبير عن أي انتقاد، على الإطلاق، لمجموعة من الأشخاص الذين يقتلون عشرات الآلاف من الأبرياء بشكل تعسفي، بما في ذلك عشرات الآلاف من الأطفال، في وضح النهار، أمام أعيننا مباشرة… الطريقة الوحيدة لبقاء المرء عاقلاً في مثل هذه الأمة الفاسدة والمجنونة أخلاقيًا، هي انتقاد تلك المجموعة بقوة أكبر.
“مرة أخرى، للتأكيد … إذا كان انتقاد الشعب اليهودي [أي: القادة الصهاينة] بسبب فسادهم الأخلاقي المطلق، والقتل الجماعي الفعلي للأطفال والرضع، معاديًا للسامية، فعندئذ يصبح ’واجبًا أخلاقيًا‘ التعبير علنًا عن معاداة السامية”.
أنا مع سيميوس كوغنيتيوس في هذه النقطة: بينما أسجل أقوى اعتراض، أعلنت نفسي معاديًا للسامية من خلال التعريف غير العقلاني المسيء الذي فُرض علينا وقت حادثة “الأقصى” في أيار (مايو) 2021. وسيكون البديل هو الصمت القسري.
ولكن، إذا كانت المكائد الشيطانية للصهاينة وجماعات الضغط التابعة لهم قد عجلت بالانحدار المتهور لنظامنا السياسي، فإن أميركا فقدت كل إمكانية للوصول إلى عالم أخلاقي جميل قبل وقت طويل من رعايتها لحملة الإرهاب الإسرائيلية في غزة، ومؤخرًا في الضفة الغربية. كان آرثر ميلر في حالة حداد بحلول أواسط السبعينيات، دعونا لا ننسى.
أقرب إلى عصرنا، نشر كريس هيدجز كتابًا لنفس هذا الغرض منذ سنوات ليست كثيرة. في “إمبراطورية الوهم” (كتُب ذا نيشن، 2009)، لا ينظر هيدجز إلى الوراء بل ينظر من نافذته -ليجد في العالم كما جعلناه ثقافة منهارة أخلاقيًا حيث يتم الخلط باستمرار بين الواقع والمسرحية، وخداع الذات، والوهم.
إنني أعرض على القراء هذا، سلة التفاح والبرتقال الخاصة بي. لا أعرف بأي طريقة أخرى يمكن أن ألتقط في بضع كلمات حالة السقوط الحر المذهلة التي نجد أنفسنا فيها.
على مدار الأسبوع الماضي أو نحو ذلك، عرضَت ثلاثة من البرامج التي نشاهدها بشكل منتظم ضيوفًا، والذين -لدهشتي الكبيرة- توصلوا إلى الاستنتاجات نفسها حول وسائل الاستجابة المتاحة للأشخاص الذين ما يزالون يهتمّون في ظروفنا المنكوبة.
تحدث جون ميرشايمر، أستاذ الشؤون الخارجية بجامعة شيكاغو؛ وشاس فريمان، السفير الفخري المحترم، في مقاطع متتالية من برنامج أندرو نابوليتانو “حرية الحُكم”. وأجرى كريس هيدجز مقابلة مع كاثرين فرانك، التي أُجبرت مؤخرًا على ترك منصبها كأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا بسبب دفاعها عن أولئك الذين تظاهروا من أجل القضية الفلسطينية.
أغسطس يجسد كل شيء. وكم هو مثير للتأمل أن الثلاثة طرحوا السؤال نفسه. لدينا إدارة لا تستجيب علنًا لمواطنيها، وغير مبالية بحقوقهم الدستورية، وتسيء استخدام القانون. يبدو أن النظام القضائي في طريقه إلى الفشل: ماذا برأيكم يجب أن يفعل الناس؟
اعتقدت أن السؤال وحده كان انعكاسًا مثيرًا للاهتمام لمأزقنا المشترك. وأعجبني رد السفير فريمان أكثر ما يكون بسبب فكرته الهادئة والواقعية، التي أعاد بها صياغة استجابات الآخرين فعيًا، على أي حال.
“حسنًا، قال فريمان: “هناك الشارع”.
*باتريك لورانس Patrick Lawrence: صحفي عمل في الخارج لسنوات عديدة، بشكل رئيسي لصحيفة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون”، وهو كاتب عمود وكاتب مقالات ومحاضر ومؤلف، كان آخر كتبه “الصحفيون وظلالهم” Journalists and Their Shadows (مطبعة كلاريتي). ومن كتبه الأخرى “لم يعد هناك وقت: الأميركيون بعد القرن الأميركي” Time No Longer: Americans After the American Century.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: American Freefal