عندما تتهاوى الأسواق وتعلو صرخات الناس، يُقال لنا إن التريليونات (تبخرت) لكن المال لا يختفي، بل يتحوّل من يد إلى أخرى. السؤال الذي لا يُطرح علناً: من ربح تلك التريليونات التي خسرناها جميعاً؟ ومن يدير خيوط هذه اللعبة المتقنة التي تُغلف بالأزمات؟
لنأخذ الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين كمثال. منذ أن بدأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عام 2018 بفرض رسوم جمركية بقيمة تجاوزت 550 مليار دولار على السلع الصينية، وردّت الصين برسوم على سلع أمريكية بنحو 185 مليار دولار ، كانت النتيجة : انخفضت صادرات الصين إلى أمريكا بنسبة 23% في 2019 ، كما أن الشركات الأمريكية دفعت أكثر من 80 مليار دولار كتكاليف جمركية إضافية خلال عامين فقط وخسرت بورصة (وول ستريت) ما يقارب 1.7 تريليون دولار في أيام قليلة عقب التوترات الحادة منتصف 2019.
من الخاسر؟ المستهلك والمزارع والعامل لكن ومن الرابح؟
شركات فيتنام سجّلت ارتفاعاً بالصادرات إلى أمريكا بنسبة 36% عام 2020، مستفيدة من خروج الشركات من الصين ، كما أن الهند والمكسيك عززتا حضورهما في سلاسل الإمداد العالمية ، وصناديق التحوط الكبرى كسبت عشرات المليارات من تقلبات العملات والذهب والنفط، وكلما زادت التوترات، زاد ربحها.
أزمة كوفيد-19 قدّمت مشهداً مشابهاً ، الاقتصاد العالمي خسر أكثر من 12 تريليون دولار في 2020، بحسب صندوق النقد الدولي ، بينما أعلنت أكثر من 114 مليون شركة صغيرة حول العالم إفلاسها، ارتفعت ثروات أغنى 10 مليارديرات في العالم بـ 540 مليار دولار خلال الجائحة وحدها، على رأسهم إيلون ماسك وجيف بيزوس ، وفي أزمة 2008، أُطلق على ما حدث (الانهيار الكبير) لكنه كان انطلاقة جديدة لأباطرة المال. تم إنقاذ البنوك التي سببت الكارثة بأموال دافعي الضرائب، ثم خرجت تلك البنوك أكبر من ذي قبل. أما المواطن، فبقي يدفع ثمن الرهن العقاري والبطالة حتى اليوم.
هنا تكمن الحقيقة المرعبة: لا وجود لـ (فوضى اقتصادية عفوية) معظم الأزمات الكبرى تخدم مصالح طبقة ضيقة من النخب المالية والشركات العابرة للقارات. عندما يعاني الناس، تتحرك تلك النخب في صمت، لتشتري الأصول بأسعار منخفضة، وتفرض قواعد جديدة تُعيد تشكيل السوق بما يناسبها.
وحتى المؤسسات المالية الدولية ليست بعيدة عن هذا النسق. ففي كل مرة ينهار فيها اقتصاد بلدٍ ما، يظهر صندوق النقد الدولي ببرامج (الإنقاذ) التي تأتي مشروطة بخصخصة الخدمات، ورفع الدعم، وتحرير الأسعار. الإصلاح الظاهري يؤدي غالباً إلى ارتفاع معدلات الفقر بنسبة تصل إلى 30% في الدول التي تطبق تلك البرامج، بحسب دراسة لجامعة كامبريدج 2021.
فمن إذاً يدير لعبة الانهيار؟
ليس بالضرورة حكومة أو رئيس، بل شبكات مصالح تمتد عبر العواصم والأسواق والبورصات. شبكات تعرف كيف تُشعل الأزمة، وتنتظر لحظة البيع أو الشراء، ثم تُلقي باللوم على الفوضى أو (الصدفة)..!
إن المال لا يتبخر إنه فقط يتنقل في الظلام، من جيب الضعفاء إلى خزائن الأقوياء ، وربما حان الوقت لنسأل لا عن سبب الخسارة فقط، بل عن هوية المنتصر الحقيقي في كل مرة نخسر فيها نحن.
المال لا يتبخر إنه يُهرّب: من يربح عندما ينهار العالم؟* د. محمد العرب
7
المقالة السابقة