يشغل الأمر بالي منذ مدة، ويعود ويلحّ عليّ بالطرح مهما ترددتُ معتذرا بزحمة الأحداث، حتى أتى زعيقٌ ونعيق أيقظ قضية الفضاء العام من سباتها العميق.
في البرامج الوثائقية التي نحبها كمشاهدين في وقتها عرضها المناسب الذي لا يختبئ وراءها خوفا من تغطية حدث بالغ الكلفة أو الإحراج، ثمة برامج عن الفضاء الخارجي وأخرى عن الفضاء الأرضي والداخلي. الأرضي يُعنى به عالم البحار والمحيطات. أما الداخلي، فهو ذلك الإنسان الزاخر بالأسرار التي ما زال العلم عصيا على سبر أغوارها بكل ما امتلك العلماء من أدوات الذكاء الطبيعي والاصطناعي.
في موجبات الحركة بأي اتجاه كان، بما في ذلك السكون أو «مَحلّك سِرّ» ثمة فضاء للفرد وللأسرة وللجماعة. تتباين المسافات وفقا للثقافات والطبيعة المكانية مساحة وطيبوغرافية. لكن الإنسان مجبول على الإحساس بحرماته، ما يتجاوز أبعاده الجسمانية. وحدها الصلاة، صلاة الجماعة لدى المؤمنين المسلمين على اختلاف المذاهب، تسمح بمجاورة الكتف للكتف رصا للصفوف، الصفوف التي ينبغي أن تكون مرسومة منضبطة على المسطرة، والأهم بما لا يسمح بوجود ثغرات ينفذ منها والعياذ بالله الشيطان الرجيم. تراعى بطبيعة الحال المسافات المناسبة بين تلك الرصوص المرصوفة المرصوصة، بما لا يتعدى حدود الفضاء اللازم للسجود والقيام، بما لا يعيق القائمين الركّع السجود. حتى تلاوة آي من الذكر الحكيم، سرا أو همسا أو جهرا، بما يريح النفوس ويجلّي الصدور، حتى تلك العبادات والنوافل والطاعات لها حرمات تتعلق بالفضاءين العام والخاص، للمصلين وللمصلى أو المسجد أو الجامع.
كلفني أيام زمان الأستاذ القدير إبراهيم شاهزادة بارك الله في عمره وتمم شفاءه العاجل بعون الله، كلّفني بالنيابة عن الزميلة لينا مشربش الإعلامية المتميزة، بتنفيذ فقرة كانت تلي نشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون الأردني بعنوان «ملاحظة إخبارية». كانت تكرس لكل ما هو إيجابي وسلبي على حد سواء، على أن يكون أسلوب الطرح بنّاء بعيدا عن الإثارة التي لم تكن أيامها كارثية كما صار عليه الحال في عهد الفضائيات ومنصات «التناحر» الاجتماعي. كان الموضوع وما زال ظاهرة مؤسفة حتى يومنا هذا في بعض المناطق، وهو التعدي على الشارع العام باسم الوصول إلى المسجد قبل صلاة الجمعة وبعدها، والتعدي على الرصيف قبل الصلاة وبعدها من قبل باعة كل ما يمكن بيعه، وقد بدأت الأمور بالخضار والفاكهة الموسمية حتى صارت تشمل البخور والسبحات والكتب والكتيبات وألعاب الأطفال بما فيها «الصيصان» لأحباب الله من الأطفال الذين للأسف لا يحظون دائما بالرعاية التامة والكاملة، أثناء أداء الأهل من الوالدين والأخوة فريضة الصلاة والإنصات للخطيب. خطيب واحد على منبر واحد.
المشكلة أنه ولتقارب المساجد -زد اللهم وبارك في كل بيت يرفع فيه اسم الله- تتداخل أصوات الخطباء عبر مكبرات الصوت. لم أعرض يومها في تلك الملاحظة الإخبارية التي ينبغي ألا تبلغ الدقيقتين ويفضل أن تبقى في حدود الستين ثانية، سوى مسألة الاصطفاف داخل المسجد وخارجه كسلوك حميد، وقد افتتحت الملاحظة يومها بنداء الخطيب الإمام بأن «سوّوا الصفوف» وختمتها بالحديث النبوي الشريف: الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل..
لو طرح استفتاء حول حرمات دور العبادة، لناشدت أئمة المساجد ورعاة الكنائس، لناشدت خدّام بيوت الله أن يبقوها في مكانة أكبر وأسمى من أي شيء دنوي، لا إمارة ولا تجارة. بمعنى احترام وصون حرمات دور العبادة من الحشد والتسويق السياسي فما بالك بالتأليب والتحريض، والأنكى والأدهى والأمرّ أن يكون ذلك النعيق والزعيق قائم على الافتراءات والتضليل والتدليس.
ما تناقلته منصات «التواصل» الاجتماعي قبل أيام من هتافات ولافتات مشينة مرفوضة شكلا ومضمونا، تستدعي ما هو أكبر وأشد من إجراءات وزارة الداخلية أو وزارة الأوقاف، الأمر في المقام الأول قضائي ومن قبل تشريعي.
لست متأكدا بمن هو الأولى بقيادة تصويب المسار، لكني أرجح أن البداية المُثلى هي في مشروع قانون يتقدم به عين أو نائب ممن يتشرفون بخدمة الله والوطن والملك من تحت قبة البرلمان ذات الجوار العبدليّ بدار القضاء ومسجد الملك المؤسس شهيد الأقصى عبدالله الأول طيب الله ثراه وكتب مقامه في عليين، وسط مساجد وكنائس عمّانية تاريخية نباهي به الجوار والعالم.
من الآخر، تكاد جميع قضايانا التي تؤرقنا منذ زمن بعيد، قضايا تتعلق بالفضاء الخاص والعام وحرماته وحماته.. اللهم محبة وحكمة وقوة..
للفضاء العام والخاص حرماته وحماته* بشار جرار
4
المقالة السابقة