دنيس روس – (الإندبندنت)
يمكن أن يسهم ميل ترامب إلى استخدام الضغط والنفوذ في إنهاء الحرب الجارية في غزة إذا طبقه بحذر. وقد أكملت إسرائيل و”حماس” المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلتا إليه في كانون الثاني (يناير) الماضي، على أن يمتد على ثلاث مراحل. لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غير مستعد للتفاوض على المرحلة الثانية. وأحد الأسباب هو أنه يريد تجنب إحداث اضطرابات داخل تحالفه. ولم يضغط ترامب على نتنياهو كي يتفاوض على المرحلة الثانية، ولذلك قام نتنياهو بتجميد الاتفاق -حيث لم يعد يُطلق سراح أي أسير ولا يسمح بدخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة.
* * *
على امتداد أعوام طويلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تمتعت الولايات المتحدة بمكانة القوة العظمى في عالم أحادي القطب. وقد ازدهر اقتصادها وأصبحت قوتها العسكرية لا تضاهى. وفي خضم سعيها إلى تحقيق أهدافها، كان على واشنطن أن تواجه عدداً من العراقيل. ولكن، حتى خلال هذه الأوقات من الازدهار، أخفق الزعماء الأميركيون أحياناً في مجال السياسة الخارجية. وفي كثير من الأحيان، ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء أسفرت عن أداء لا يعكس مكانتها الدولية الرفيعة. وعلى سبيل المثال، تساءل الكثيرون عن كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتمتع بالقوة الكافية لتخرج منتصرة من الحرب الباردة، وتخفق في الوقت ذاته في تحقيق مهمتها المنشودة في مناطق مثل الصومال بعد مرور أعوام قليلة فقط.
وقد تغير العالم بشكل جذري منذ ذلك الحين. فقد أحرزت الصين تقدماً لافتاً، وأصبحت الآن قادرة على منافسة الولايات المتحدة على الصعيدين العسكري والاقتصادي. كما سعت، إلى جانب روسيا، إلى تقويض النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. وأصبح لواشنطن منافسون أنداد من جديد. باختصار، تخسر الولايات المتحدة تفوقها شيئاً فشيئاً.
كما تغير الشعب الأميركي أيضاً. لم يعد في الداخل إجماع على ضرورة أن توجه الولايات المتحدة دفة العالم. لكن هذه النزعة الانعزالية ربما يتبين أنها محفوفة بالأخطار، لأن العالم يكون أكثر استقراراً بشكل عام عندما تلعب الولايات المتحدة دوراً قيادياً فيه. ونظراً إلى هذه القيود في الداخل والخارج، ما عاد الزعماء الأميركيون يملكون رفاهية مقاربة فن الحكم بطريقة سيئة والتعثر على طول الطريق. ويجدر بهم الآن أخذ العِبر من الدروس المستقاة من الأخطاء التي ارتكبها مَن سبقوهم- تحديداً أن السياسة محكومة بالفشل إذا لم يوازن الرئيس بين أهدافها ووسائل تطبيقها.
لكي ينجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عليه أن يدرك هذه الحقيقة. صحيح أن بعض أهدافه، مثل وضع حد للحروب في غزة وأوكرانيا، تستحق الثناء، لكنها فضفاضة إلى حد أنها تتطلب من الولايات المتحدة تسخير كل قدراتها. وحتى لو فعلت ذلك، فإنها ستظل في حاجة إلى المساعدة من بعض شركائها. ومع أن ترامب يرى في الحلفاء أناسًا منتفعين مزعجين، فسوف يصعب عليه طي صفحة الحرب في غزة من دون دعم الدول العربية. كما سيكون من عليه الصعب أيضاً أن يمارس “أقصى الضغوط الممكنة” على إيران من دون أن يفرض شركاء الولايات المتحدة عقوبات عليها كذلك. وإذا أرادت إدارة ترامب أن تستعيد الولايات المتحدة هيمنتها، فعليها أن تتبين كيفية تحقيق هذه الأهداف وما الذي تحتاج إليه للنجاح في مساعيها. قد يبدو هذا بديهياً للغاية، لكن التاريخ الأميركي حافل بالسياسات الخارجية التي أخفقت بسبب عدم قدرة الرؤساء على -أو عدم رغبتهم في- حشد الموارد الضرورية لتحقيق الأهداف التي حددوها.
تحديد الأهداف
كثيرة هي المساعي الأميركية المحكومة بالفشل منذ البداية في مجال السياسة الخارجية بسبب وضعها لخدمة أهداف سيئة. في بعض الأحيان لا يكوّن الرؤساء الأميركيون صورة وافية عن الوضع الذي يواجههم، فيضعون أهدافاً طموحة للغاية. وعلى سبيل المثال، اعتقد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بأن الولايات المتحدة قادرة على إرساء الديمقراطية والسلام في الشرق الأوسط عن طريق الإطاحة بالديكتاتور العراقي صدام حسين. وسيكون من شأن عراق حر أن يرتقي ليصبح نموذجاً تحتذي به باقي دول المنطقة -أو هذا ما اعتقده الرئيس. واقتنع الرئيس بهذه الخطة بسبب مستشاريه وبعض الشخصيات العراقية البارزة في المنفى. وقد أبعد الأشخاص المحيطين به مثل وزير الخارجية كولن باول الذي عارض هذه الافتراضات. ونتيجة لذلك، غيرت الولايات المتحدة النظام في العراق، لكنها تركت فراغاً أدى إلى نشوب حرب طائفية. من دون ضمان أمن الشعب العرقي، لم يتح للعملية السياسية أي فرص نجاح.
كذلك يمكن أن يؤدي الضغط السياسي بالرؤساء إلى تبني أهداف ليسوا مستعدين لتحقيقها. في العام 2011، بدأ الرئيس السوري بشار الأسد في قتل وتعذيب الآلاف من شعبه. وعلى مدى أشهر، ناشد الناشطون والمحللون الرئيس الأميركي باراك أوباما لكي يتدخل. وفي آب (أغسطس) 2011، رد على هذه الضغوط بتصريحه بأن الأوان قد حان لكي “يتنحى” الأسد. لكن أوباما لم يكن مستعداً للتدخل. وكانت كلفة تقاعسه هذا حرباً مدمرة أسفرت عن صعود “داعش”، ومصرع 600 ألف شخص وتهجير الملايين غيرهم. صحيح أن التدخل الأميركي لم يكن ليمنع نشوب الحرب، ولكن كان بمقدور الولايات المتحدة أن تقلص الأضرار بشكل كبير عن طريق حظر الطيران فوق شمال سورية، على سبيل المثال.
في بعض الأحيان، يحقق الرؤساء هدفاً واحداً فيقتنعون بعد ذلك بأنهم قادرون على تحقيق المزيد. على سبيل المثال، وافق الرئيس جورج بوش الأب على مهمة عسكرية في العام 1992 من أجل إغاثة الصومال من المجاعة ومنع المسلحين من الاستيلاء على المساعدات الإنسانية. وقد نجحت القوات الأميركية في تقليص خطر المجاعة -محققة هدف بوش الأساسي- لكن البلاد ظلت غير مستقرة جراء الاقتتال بين أمراء الحرب. عندها وسّع بوش نطاق عمل المهمة لدرجة أن الولايات المتحدة تورطت فعلياً في الحرب الأهلية في الصومال. ثم ورث الرئيس بيل كلينتون هذا الهدف المعدل واستمر على نهج بوش إلى أن أسقط المسلحون الصوماليون مروحيتين أميركيتين من طراز “بلاك هوك” وسحلوا جثث جنود المارينز الأميركيين في شوارع مقديشو. بعد هذه المأساة، قام كلينتون بسحب القوات الأميركية من البلاد. وفشلت تلك المهمة في نهاية المطاف لأن الولايات المتحدة كانت تفتقر إلى مصلحة استراتيجية تستخدم القوة لتحقيق التغيير، وإلى شريك محلي موثوق قادر على الانتصار في الحرب الأهلية الصومالية. وتبين أن الصومال هي المثال النموذجي على انحراف المهام، حيث كبر الهدف بمرور الوقت وأصبح ثقيلاً وغير عملي، وقطعت الولايات المتحدة وعوداً لم تكن مستعدة لتحقيقها.
من شبه المؤكد أن تسفر الأهداف غير المدروسة عن فن حكم سيئ. وإذا أراد الرئيس وضع أهداف مناسبة، فعليه أن يدرس الأخطار جيداً. يمكن للولايات المتحدة أن تكون طموحة عندما تكون مستعدة لتسخير الموارد الضرورية، كما سبق وأن فعلت في ألمانيا بعد سقوط جدار برلين. وقد آمنت إدارة جورج بوش الأب بأن توحيد شطري ألمانيا هو مسألة حتمية، وبأن من الضروري أن تكون الدولة الألمانية الجديدة جزءاً من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، حيث ساور واشنطن القلق من أن تشعر ألمانيا الموحدة -في حال كانت على الحياد- بالحاجة إلى تطوير أسلحتها النووية الخاصة، أو أن تصبح مساحة للتنافس بين القوى العظمى- مما يعيد إنتاج الظروف نفسها التي أدت إلى نشوب الحربين العالميتين في أوروبا.
لكن الأخطار كانت هائلة جداً والعوائق جسيمة: لم يكن الاتحاد السوفياتي ليقبل بسهولة بهذه النتيجة التي يتوحد فيها شطرا ألمانيا وينضم البلد كله إلى الحلف الأميركي. كما شعر الزعماء البريطانيون والفرنسيون أيضاً بالقلق من أن تزداد ألمانيا قوة وتهيمن على أوروبا. وكما قالت رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر: “سوف يأخذ الألمان في السِّلم ما لم يتمكن هتلر من أخذه في الحرب”. لكن بوش ووزير خارجيته، جيمس بيكر، قررا أنهما قادران على التغلب على كل جهات المعارضة إذا هما أمسكا بزمام المبادرة وأظهرا للألمان أن واشنطن تقف إلى جانبهم، وعرضا على الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف حزمة من التطمينات والدعم الملموس، وأظهرا كيف يمكن للولايات المتحدة أن تسهم في تغيير الهيكلية الاقتصادية والأمنية لأوروبا بحيث لا تتيح لألمانيا الهيمنة على المؤسسات الأوروبية (غالباً ما طمأن بوش وبيكر الحلفاء بقولهما إن النتيجة ستكون ألمانيا أوروبية وليس أوروبا ألمانية).
نجحت واشنطن في ضمان مشاركة ألمانيا الموحدة في الناتو، وهو إنجاز ضخم، لأنها كانت مستعدة لتعزيز هذا المسعى الدؤوب عن طريق الجمع بينه وبين الجهود الدبلوماسية الحثيثة. وقد سافر بيكر حول العالم للقاء نظرائه البريطاني والفرنسي والألماني والسوفياتي من أجل العمل على التفاصيل، ومنها طريقة انسحاب القوات السوفياتية من ألمانيا الشرقية ومن سيدفع كلفة سحبها، وكيف يمكن أن يبدو الناتو أقل تهديداً بالنسبة للاتحاد السوفياتي. وأدارت الولايات المتحدة كل خطوة من عملها الدبلوماسي بدقة. وعلى سبيل المثال، استخدمت واشنطن قنوات خلفية للاتفاق على التفاصيل في مسائل حيوية قبل إجراء اللقاءات مع الحلفاء والاتحاد السوفياتي، ووصل بها الأمر إلى منح غورباتشوف ووزير خارجيته إدوارد شيفرنادزه مسودة إعلان الناتو لتبين لهما أن الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة يتغير -وهي مسألة يقول شيفرنادزه أنها أتاحت لغورباتشوف فرصة إقناع قيادة الحزب بقبول انضمام ألمانيا إلى الناتو.
حقق بوش نجاحه في ألمانيا بفضل الدبلوماسية الدقيقة والقوة الأميركية الناعمة، حيث يصبح في المتناول بلوغ الأهداف الأميركية عندما تستعين بالحلفاء وتطرح الأمور بشكل يجعل الموقف الأميركي جذاباً في عيون الآخرين. وبطبيعة الحال، لا يمكن للقوة الناعمة أن تحل محل القوة الصلبة، لكنها يمكن أن تصبح مكملة لها إذا تم استخدامها بطريقة فعالة. وقد تجاهل ترامب هذه الأداة بشكل كبير، وهو يفضل أن يصدم الحلفاء والشركاء بدلاً من أن يستقطبهم لمصلحة قضاياه، وهو يرتاح بشكل أكبر عندما يستخدم عنصراً آخر من عناصر فن الحكم: النفوذ.
صانع سلام؟
يمكن حقًا أن يسهم ميل ترامب إلى استخدام الضغط والنفوذ في إنهاء الحرب الجارية في غزة إذا طبقه بحذر. وقد أكملت إسرائيل و”حماس” المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلتا إليه في كانون الثاني (يناير) الماضي، على أن يمتد على ثلاث مراحل. لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غير مستعد للتفاوض على المرحلة الثانية. وأحد الأسباب هو أنه يريد تجنب إحداث اضطرابات داخل تحالفه. ولم يضغط ترامب على نتنياهو كي يتفاوض على المرحلة الثانية، ولذلك قام نتنياهو بتجميد الاتفاق -حيث لم يعد يُطلق سراح أي أسير ولا يسمح بدخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة. بدلاً من ذلك، يطرح مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، خطة بديلة يستمر فيها وقف إطلاق النار 40 يوماً يطلق خلالها سراح نصف الأسرى الأحياء المتبقين مقابل عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، مما يعطي الولايات المتحدة وقتاً إضافياً كي تحاول حل كل القضايا، لكن “حماس” رفضت هذه الخطة. وفي 18 آذار (مارس) الجاري، استأنفت إسرائيل قصف غزة، ربما بهدف الضغط على “حماس” كي تقبل بمقترح ويتكوف. وسيسفر تجدد القتال عن مصرع عدد أكبر من الفلسطينيين، وقد ينهي حياة الرهائن ويغرق إسرائيل أكثر في غزة، من دون أن يكون لديها أي طريقة سهلة للخروج منها.
لقد حان وقت لكي يلجأ ترامب إلى نفوذه ويولي الأولوية لاستمالة الدول العربية. حتى تنتهي هذه الحرب، يجب التوصل إلى بديل عن حكم “حماس” في غزة، وهو ما لا يمكن حصوله إلا بدعم من الدول العربية. في الخامس من آذار (مارس) الجاري، أعلنت مصر عن خطة لإنشاء إدارة فلسطينية لغزة من التكنوقراط وإعادة إعمار القطاع من دون الحاجة إلى إخراج الغزيين منه- في رد على اقتراح ترامب بنقل الغزيين إلى دول أخرى كي تتمكن الولايات المتحدة من بناء “ريفييرا الشرق الأوسط”. وبموجب الخطة المصرية، ينتقل الفلسطينيون إلى مناطق معينة من القطاع كي يتسنى البدء في إعادة الإعمار في مناطق أخرى. لكنّ عيب الخطة الفادح هو أنها لا تتطرق إلى مسألة “حماس” -بل لا تذكر “حماس” أبداً. ثمة قلة من المانحين مستعدون للاستثمار في القطاع وهم يعلمون أن “حماس” قادرة على إعادة رص صفوفها وترميم قدراتها وإشعال حرب أخرى بعد بضعة أعوام.
سوف تقبل إسرائيل بإنهاء الحرب بعد عودة كل الأسرى، وعند اقتناعها بأن “حماس” غير قادرة على إعادة بناء صفوفها. ويجب أن تتضمن الخطة العربية بنوداً يمكن الركون إليها لمنع التهريب من مصر إلى غزة، والحرص على عدم استيلاء “حماس” على المساعدات الإنسانية ومواد إعادة البناء ولا إعادة بيعها ولا تعديلها واستخدامها لأهداف أخرى. ومن شأن هذه البنود أن تقطع مصدر الدخل الرئيسي للحركة بشكل فعال. وعلى الدول العربية أن تظهر كيفية تطبيق هذه الآليات عبر اقتراح إرسال قوات من أجل تطبيق القانون وضبط النظام مثلاً، والحيلولة دون استيلاء “حماس” على المساعدات. وكانت الإمارات قد أبدت استعداداً للقيام بهذا الدور إذا انضمت إليها دول عربية أخرى.
يستطيع ترامب أن يؤثر في الخطة المصرية من خلال الترغيب والترهيب: بإمكانه على سبيل المثال أن يوضح أنه ما لم تتضمن الاتفاقية آليات كهذه، فإنه سيرفضها ويدعم جهود إسرائيل للإمعان في تحطيم “حماس”. ولا تحب الدول العربية “حماس” لكنها تريد إنهاء الحرب. وفي الوقت نفسه يمكنه أن يعِد بأنه في حال طُبقت هذه الآليات بشكل محكم، فإنه يمكن لمصر أن تقود عملية إعادة إعمار غزة، وهو ما من شأنه أن يوفر دعماً للمقاولين المصريين والاقتصاد المصري ككل. وعلى الدول العربية أن تضع أيضاً خطة لإصلاح السلطة الفلسطينية كي تتمكن في نهاية المطاف من تحمل المسؤولية في غزة. وإذا بقيت السلطة الفلسطينية على حالها من الفساد والتصلب وانعدام الشعبية، فلا سبيل موثوقاً يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية.
إيران
أما في الشأن الإيراني، فعلى ترامب منع الجمهورية الإسلامية من صناعة سلاح نووي. وقد عمد، حتى الآن، إلى فرض عقوبات على طهران وهدد باستخدام العنف ضدها. كما قام بتوجيه ضربات عسكرية إلى الحوثيين؛ الميليشيات المدعومة إيرانياً، وصرح بأنه “سينظر إلى كل طلقة يطلقها الحوثيون… على أنها أطلقت من أسلحة إيران وقيادتها”. لكن ترامب سيكون أكثر إقناعاً إذا استخدم مقاربة شاملة تتضمن زيادة العزلة السياسية لطهران -وهي خطة نجحت جيداً عبر التاريخ. وبغية عزل إيران مالياً ودبلوماسياً بشكل فعال، تحتاج واشنطن إلى المساعدة من حلفائها وشركائها. وعلى ترامب ووزير الخارجية، ماركو روبيو، العمل على تعبئة وحشد جهات أخرى للانضمام إلى الولايات المتحدة في مساعيها عبر تسليط الضوء على عمل إيران بوتيرة متسارعة في تخصيب اليورانيوم حتى 60 في المائة -30 كيلوغراماً شهرياً- منذ نهاية العام الماضي على أقل تقدير. ووفقاً للمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل غروسي، فإنه “ما من غرض مدني يمكن تبريره” لتخصيب اليورانيوم إلى هذه العتبة. وتفيد الوكالة الآن بأن إيران تمتلك بالفعل مواد شبه قابلة للاستخدام في صناعة ست قنابل.
على واشنطن أن تنشر النتائج التي توصلت إليها الوكالة وتنبيه العالم إلى أن كل دولة وصلت إلى مستوى تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المائة أنتجت بعدها قنابل نووية. وقد اتخذت إدارة ترامب بالفعل خطوات هدفها زيادة الضغط الاقتصادي على إيران من خلال فرض عقوبات على الجهات التي تشتري النفط الإيراني. ومن خلال إقناع الحلفاء بالانضمام إلى هذه المساعي، ستتضاعف قدرة ترامب على إرغام إيران على وقف برنامجها النووي.
القوة في الجماعة
من مصلحة ترامب ألا يكتفي باستخدام نفوذه مع إيران، بل أن يستخدمه مع الدول التي لديها تأثير على طهران أيضاً. وعلى سبيل المثال، لا ترغب الصين في أن تستخدم الولايات المتحدة أو إسرائيل القوة ضد إيران، لأن ذلك قد يرفع أسعار النفط بشكل هائل. وعلى ترامب أن يكون واضحاً مع الرئيس شي جينبينغ وأن يبدي استعداده للتخلي عن خيار الضربة العسكرية الأميركية في حال وقّعت إيران على اتفاق يقلص حجم بنيتها التحتية النووية إلى حد كبير (على أن يسمح بإنتاج الطاقة النووية للأغراض المدنية).
يتوجب على ترامب التواصل مع إيران عبر قنوات متعددة. وعليه أن يعبّر في العلن وفي المجالس الخاصة عن أنه بينما يفضل استخدام الدبلوماسية، فإن الولايات المتحدة، سواء وحدها أو إلى جانب إسرائيل، لم تعد تملك خيارًا سوى تدمير البنية التحتية النووية في إيران إذا رفضت طهران إبرام اتفاق. ويجب أن يعلم زعماء إيران بأنهم قد يخسرون أربعة عقود من الاستثمار في بنية بلادهم التحتية النووية إذا هم رفضوا الحل الدبلوماسي.
ويستطيع ترامب أن يقرن تهديداته بحوافز، منها وعود بالاستثمار في إيران ورفع العقوبات عنها. وقد تشكك القيادة الإيرانية في هذه العروض نظراً إلى أن بلادها لم تستفد كثيراً من المكاسب الاقتصادية جراء الاتفاق النووي الذي أبرمته في العام 2015. لكن ترامب يستطيع أيضاً أن يعرض عليها المساعدة في مجال الأمن المائي والغذائي، حيث تعاني إيران شحاً شديداً في المياه. وقد حذر أحد وزراء البيئة السابقين من أن البلاد لن تعود قادرة على تلبية حاجة شعبها من المياه إذا مضت قدماً في هدرها وإساءة إدارتها. ويمكن للولايات المتحدة أن تساعد من خلال توفير تقنيات تنظم ري المحاصيل، ومنع خسارة المياه من خلال التبخر -ويجب أن تعلن استعدادها لفعل ذلك.
يتطلب الحكم الجيد وضع أهداف واقعية وتخصيص الموارد اللازمة لتحقيقها. ويعي ترامب أكثر من معظم الناس أهمية بسط النفوذ لبلوغ الأهداف. لكن ما يفوته هو أن التاريخ أثبت أن واشنطن حققت فعالية قصوى حين حشدت الدعم من أصدقائها. فمن خلال العمل مع الآخرين، تضاعف الولايات المتحدة نفوذها وتصبح أقوى. وتأتي أفضل فرصة تملكها إدارة ترامب للنجاح عن طريق تسخير كل الأدوات التي بين يديها -بما في ذلك القوة الناعمة والتحالفات.
*دنيس روس: مستشار في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وأستاذ في جامعة جورج واشنطن ومؤلف كتاب فن الحكم: ما تحتاج إليه الولايات المتحدة للقيادة في عالم متعدد الأقطاب (مطبعة جامعة أكسفورد، 2025). والمقال جزء مقتطع بتصرف من الكتاب الآنف الذكر. المقال مترجم عن مجلة “فورين أفيرز”.