عروبة الإخباري –
يعد كتاب «مدحت باشا ماذا فعل في الخليج» للباحثة والصحافية ريتا بولس شهوان، بمثابة دراسة تاريخية تحليلية تتناول حقبة حساسة من التاريخ العثماني في منطقة الخليج العربي، عبر التركيز على شخصية مدحت باشا، أحد أبرز رجال الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، والذي لعب دورًا محوريًا في محاولات الإصلاح السياسي والإداري في الدولة العثمانية.
واستندت الباحثة شهوان، في عملها إلى وثائق تاريخية قام بترجمتها الباحث كمال أوغلو، وتقدم قراءة نقدية وتحليلًا متعمقًا للوثائق ضمن سياقها التاريخي، مما يجعل هذا الكتاب مرجعًا مهمًا لفهم طبيعة التنافس العثماني-البريطاني في الخليج، ودور مدحت باشا في تلك المرحلة.
ويسلط الكتاب الضوء على محاولات مدحت باشا تطبيق إصلاحاته الإدارية والسياسية في العراق وسوريا والخليج العربي، وهي مناطق كان لها أهمية استراتيجية في الإمبراطورية العثمانية. وتشير الباحثة إلى أن مدحت باشا لم يكن مجرد والي عثماني تقليدي، بل كان رائدًا في تحديث الإدارة والحكم، حيث سعى إلى دمج المناطق التي حكمها ضمن **إطار الدولة العثمانية الحديثة من خلال إصلاحات تهدف إلى فرض النظام وتحقيق الاستقرار.
وتوضح شهوان على أن هذه الإصلاحات لم تكن مجرد تعديلات إدارية، بل كان لها تأثير سياسي واقتصادي كبير على المناطق التي شملتها، حيث أسهمت في تطبيع الحكم العثماني، وتعزيز سيطرته على مناطق كانت تتمتع باستقلالية نسبية مثل بعض إمارات الخليج.
إحدى النقاط المهمة التي يتناولها الكتاب هي استراتيجية الدولة العثمانية لبسط سيطرتها على منطقة الخليج العربي، والتي كانت ساحة صراع بين العثمانيين والبريطانيين. ومن القضايا التي تناولتها الباحثة في هذا السياق:
– تعرض الباحثة معلومات جديدة لم تُنشر من قبل، تسلط الضوء على تفاصيل التوسع العثماني في هذه المناطق، حيث اعتمد مدحت باشا على استراتيجية مزجت بين القوة العسكرية والدبلوماسية.
– لعب الأسطول الكويتي والدبلوماسية الكويتية دورًا رئيسيًا في هذه الحملة، حيث حاول العثمانيون بناء أسطول بحري قوي في الخليج لمواجهة النفوذ البريطاني المتزايد.
– وترى الباحثة أن العثمانيين تبنوا سياسة استرضاء حكام الكويت للحفاظ على نفوذهم في المنطقة، مما خلق نوعًا من توازن الرعب والاستقرار النسبي في العلاقات، وأدى إلى نوع من التعاون بين الطرفين.
– تشير الباحثة إلى أن دخول العثمانيين إلى الأحساء لم يكن مجرد احتلال عسكري، بل استغلوا الصراعات الداخلية بين القوى المحلية ليبرروا تدخلهم.
– قامت الدولة العثمانية بتعيين عبدالله قائمقام على المنطقة، متعهدة بحمايته، لكن التوترات المحلية والقتال المستمر جعل المشهد أكثر تعقيدًا.
– الصراع بين الأطراف المحلية بلغ مستويات من العنف المتكرر، لكن لم يكن هذا كافيًا لتغيير المشهد العام الذي ظل محكومًا بالتنافس العثماني-البريطاني.
وتقدم الباحثة تحليلًا للعلاقات العثمانية-البريطانية خلال فترة حكم مدحت باشا، حيث كانت بريطانيا تسعى إلى توسيع نفوذها في الخليج العربي، بينما كانت الدولة العثمانية تحاول الحفاظ على وجودها هناك من خلال استخدام القوة العسكرية والدبلوماسية.
وتكشف الوثائق التي استندت إليها الباحثة أن الدولة العثمانية كانت تدرك خطورة الوجود البريطاني، ولذلك عملت على تعزيز سيطرتها على الموانئ والمناطق الاستراتيجية في الخليج. لكن رغم هذه الجهود، لم تتمكن الدولة العثمانية من فرض سيطرة كاملة، خاصة بسبب الدعم البريطاني لبعض القوى المحلية.
تتطرق الباحثة إلى أحد أهم الجوانب في حياة مدحت باشا، وهو كونه من أبرز الشخصيات التي دافعت عن فكرة الدستور العثماني. وتشير إلى أن إصراره على الإصلاح الدستوري كان **أحد أسباب نفيه** لاحقًا، حيث لم تكن النخبة الحاكمة في الدولة العثمانية مستعدة بعد لتبني هذه الأفكار التحديثية.
– تعتبر الباحثة أن مدحت باشا كان شخصية محورية في بداية التحولات السياسية في الدولة العثمانية.
– رغم نفيه، إلا أن أفكاره الإصلاحية كانت من بين العوامل التي ساهمت في تحولات تركيا الحديثة، وخاصة فيما يتعلق بالدستور والعلمانية.
– ترى أن التحديات التي واجهها مدحت باشا تعكس الصراعات التي استمرت لاحقًا في العالم العربي، حيث لعبت الصراعات الداخلية مثل الإقطاع، العشائر، والتنافس بين الحكام دورًا كبيرًا في تشكيل مسار التاريخ السياسي.
التاريخ المشترك بين تركيا والعالم العربي
تؤكد الباحثة أن العلاقة بين تركيا والعالم العربي لم تنتهِ بسقوط الدولة العثمانية، بل ما زال هناك إرث تاريخي مشترك يؤثر على السياسات الإقليمية اليوم. كما ترى أن تركيا الحديثة، رغم توجهها نحو النموذج الأوروبي، لا تزال تحمل ملامح من ماضيها العثماني، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين الإسلام والسياسة.
الاعتدال في الإسلام: جدلية دائمة بين العثمانيين والعالم الإسلامي
تناقش الباحثة مفهوم “الاعتدال في الإسلام”، والذي كان جزءًا من السياسة العثمانية في التعامل مع الشعوب الإسلامية. تشير إلى أن هذا المفهوم ظل موضع نقاش بين التيارات الإسلامية، خاصة مع تطور الحركات الفكرية والسياسية في القرن العشرين وما بعده.
يقدم كتاب «مدحت باشا ماذا فعل في الخليج» طرحًا جديدًا حول دور مدحت باشا في المنطقة، ويكشف عن تفاصيل لم تكن معروفة سابقًا حول العلاقة العثمانية بالخليج. تعتمد الباحثة على وثائق تاريخية تقدم رؤية متعمقة، وتربط بين الماضي والحاضر بطريقة تحليلية ثرية.
يعد هذا الكتاب إضافة مهمة للدراسات التاريخية والسياسية حول الخليج العربي والدولة العثمانية، خاصة في ظل تزايد الاهتمام بتأثير العثمانيين على المنطقة. كما أنه يثير تساؤلات حول طبيعة الحكم العثماني، ومدى تأثيره على تشكيل الأنظمة السياسية في المنطقة حتى اليوم.