عروبة الإخباري –
يطالب الرئيس قيس سعيد بإصلاح الخطوط الجوية التونسية والقطع مع الوضع الصعب الذي تعيشه، وحث على اتخاذ إجراءات عاجلة في كافة المستويات لوضع حدّ لما آلت إليه الشركة. فهذه ليست المرة الأولى التي يطالب فيها قيس سعيد بإصلاح الشركة، كما أن الذين سبقوا من وزراء النقل أو المسؤولين عن الشركة كانوا صرحوا بدورهم برغبتهم في إصلاح الشركة، لكن الأمر يستمر على ما هو عليه ويزداد سوءا.
المفارقة الأولى أن الكثيرين يربطون بين إصلاح المؤسسة، التي تمتلك الدولة التونسية أغلب أسهمها، وبين التفويت فيها للخواص. حصل هذا في السنوات الأولى للثورة بشكل معلن سواء من داخل المؤسسة أو عبر تصريحات ممثلي أو قادة الاتحاد العام التونسي للشغل. الآن يقال الأمر من وراء الستار.
الرسالة واضحة ومفادها أن الإصلاح مؤامرة لبيع الشركة، وأن الحل في إبقاء الأمر على ما هو عليه. وخرجت إشاعات عن أن الجهة الفلانية تريد بيعها للقطريين أو الأتراك أو الفرنسيين، ضمن حملات استباقية لمنع أي اقتراب من تفكيك الملف.
◄ لا يمكن أن يكتفي المسؤول الذي تكلفه الدولة بتقييمات عامة عن الوضع، عليه أن يقف على التفاصيل ويتمسك بتغييرها لأن هذه هي التي يراها المسافرون ويحكمون من خلالها
نجحت الحملة في تأجيل الإصلاح. لكن الأمر يختلف الآن. قيس سعيد يقلب المعادلة من خلال الاعتبار بأن عرقلة الإصلاح هدفها الدفع نحو التفويت في الشركة. المتهم بالعرقلة لم يعد من خارج المؤسسة بل من داخلها، وهذا هو الأهم، وهو المدخل الأساسي لتفكيك الأزمة ثم البحث لها عن حلول. البحث في الخارج يعني المزيد من إضاعة الوقت ودفع الشركة إلى الاستمرار في الانحدار، في وقت يعرف فيه الجميع صعوبة تغيير صورة الخطوط التونسية في أنظار المسافرين المحليين والأجانب، وأن الأمر يأخذ وقتا، لذا وجب الإسراع بالحسم.
الخطوة الأهم، وقبل وضع برنامج للتطوير هو أن يتم التعامل مع الأزمة بجدية واتخاذ قرار بالإصلاح في أفق لا يتجاوز ثلاث سنوات. وأولى الخطوات الجدية تكون بتخلي الحكومة عن المجاملات وإظهار المرونة مع لوبي إداري متمرس سبق أن قام بـ”تطفيش” وزراء نقل سابقين ونجح في إسقاطهم بنقل تهمتيْ الفساد والمحسوبية إليهم، وإظهارهم في مظهر المتآمرين على المؤسسة وعلى الدولة بالسعي إلى التفويت في الشركة، فقط لأن بعض الوزراء تساءل عن سر التضخم في أعداد الموظفين وشروط التوظيف ومن المستفيد في ظل رواج أخبار المحسوبية بتشغيل الأقارب والمقربين (المعارف) دون وجه حق ودون مستوى علمي.
ونتذكر ما جرى مع ألفة الحامدي حين تم تعيينها على رأس الخطوط التونسية في 2021 وكيف أن سعيها لمعرفة دواليب المؤسسة والتساؤل عن بعض الجزئيات مثل وضع الطائرات، أدّى إلى شيطنتها على نطاق واسع بطريقة تداخل فيها الإداري بالسياسي والشخصي. من ذلك اتهامها بأن حركة النهضة من عينتها بالرغم من أن مواقفها السابقة واللاحقة تظهر أنها بعيدة عن الحركة الإسلامية، وشككوا في شهاداتها العلمية، واستهزأوا بقدرتها على إدارة مؤسسة بهذا الحجم لاعتبارات جندرية. حاصرت النقابات مكتبها ومنعتها من الدخول في حين اكتفت الحكومة بالفرجة، وهو ما زاد من تجرؤ لوبي الإدارة الذي يلبس لبوسا نقابيا.
وبعد إقالتها، قالت الحامدي إن اتحاد الشغل يفرض أشياء على الخطوط التونسية من شأنها أن تفاقم من وضعها الصعب في علاقة بالانتدابات واشتراكات النقابيين. واتهمت الأمين العام للمنظمة نور الدين الطبوبي بأنه قاد شخصيا مهمة إقالتها.
◄ المتهم بالعرقلة لم يعد من خارج المؤسسة بل من داخلها، وهذا هو الأهم، وهو المدخل الأساسي لتفكيك الأزمة ثم البحث لها عن حلول
وتفيد هذه العينات الحكومة الحالية لضبط طريقة التعامل مع اللوبي المهيمن بشكل واضح بدل الاعتماد على المجاملة أو تغيير الرئيس المدير العام وجلب آخر.
تغيير المسؤول الكبير لا يفيد في شيء، فمهما كانت قدرته، فإنه سيجد أمامه عالما مغلقا يحتاج إلى أشهر حتى ينفذ إلى بعض عناصره بدل أن يبدأ من اللحظة الأولى في تنفيذ الإصلاحات. والأغرب أن الدولة لا تتحمل بطء اختراقه للحواجز التي هندسها لوبي الإدارة المناوئ لأيّ تغييرات فتبادر إلى إقالته وتأتي بواحد جديد ليعيد نفس الجهد العبثي على طريق صخرة سيزيف.
ومن الممكن تكليف لجنة من الخبراء لدراسة الملف يشارك فيها خبراء من الخارج متخصصون في المجال لفهم واقع الشركة ماليا، أين تذهب العائدات والأموال التي تنفقها الدولة لتغطية العجز، ودراسة التفاصيل مهمة للوقوف على شبكات الفساد في عناصرها الصغيرة والكبيرة، ما يجعل القضاء قادرا على تفكيك تحالف الفاسدين عبر الملفات ودون قرار إداري بتخفيض اليد العاملة حتى لا يُمنح الفاسدون مظلة يتحركون تحتها ويكتسبون بها شرعية. فالأولوية في التخفيض للمتورطين في الفساد وليس لمقاييس تتعلق بالأقدمية والعمر والشهادات، تلك مرحلة ثانية في حال كان عدد الفاسدين قليلا.
لا تمكن المساواة مطلقا في عملية تسريح الموظفين بين من كان سجله نظيفا ولم يتورط في سرقة أو تبديد لأموال المؤسسة ولا استخدم اسمها لتحقيق مكاسب له أو لأبنائه أو أقاربه أو معارفه، وهم أكثرية، وبين من تسببوا في إرباك المؤسسة وإضعافها من بوابة الفساد، إلى درجة أنها باتت عاجزة عن الإنفاق على إصلاحات الطائرات.
يضاف إلى ذلك تشريح عملية التوظيف وشبكة العلاقات ودراسة ملفات الموظفين ملفا ملفا ممّن دخلوا قبل الثورة ومن دخلوا بعدها، وضبط قائمة الاستحقاقات، ووضع جدولة للتخلص من اليد العاملة الزائدة على النصاب.
◄ الرسالة واضحة ومفادها أن الإصلاح مؤامرة لبيع الشركة، وأن الحل في إبقاء الأمر على ما هو عليه. وخرجت إشاعات عن أن الجهة الفلانية تريد بيعها للقطريين أو الأتراك أو الفرنسيين
ومن نتائج السكوت على الفساد، الذي استشرى ما بعد الثورة، أن لوبي الإدارة النافذ في المؤسسة بات يحمي عمليات تسيء لها منها عملية سرقة الأمتعة بشكل منظم وشائع في فترات سابقة، حتى صار الناس يتندرون بقصص السرقة وطرائق تنفيذها، ما جعل سمعة المؤسسة على كل لسان لأن السرقات لم تقف عند حوادث معزولة أو عند جنسية معينة بل طالت أغلب الجنسيات.
ومن الأعمال التي أساءت للمؤسسة، وهي نتاج لتساهل الدولة وغيابها في مراحل ماضية، تقديم خدمات سيئة للمسافرين وعدم العناية بالطائرات في التفاصيل الصغيرة، ومن بينها الكراسي المهترئة، ومسألة التقشف في الأكل، التي باتت بدورها مثار تندر، وتكرّر عمليات التأخير دون ضوابط وخاصة دون احترام المسافرين، ما جعل الكثيرين يغيرون وجهتهم نحو شركات منافسة حتى لو كانت الأسعار مضاعفة.
لا يمكن أن يكتفي المسؤول الذي تكلفه الدولة بتقييمات عامة عن الوضع، عليه أن يقف على التفاصيل ويتمسك بتغييرها لأن هذه هي التي يراها المسافرون ويحكمون من خلالها وإن كانت هي واجهة للإصلاحات الضرورية، وهو ما عناه الرئيس سعيد في لقائه الجمعة برئيسة الحكومة الجديدة سارة الزعفراني الزنزري حين قال إن “كلّ مسؤول يجب.. أن يبادر بتذليل العقبات ويعمل على إزالتها.“
وينطبق الأمر نفسه على بقية المؤسسات والشركات الحكومية التي تعيش وضعا ماليا صعبا، ما يجعل الدولة تنفق عليها سنويا الملايين من دون نتائج واضحة، ذلك أن الهدف ليس بقاء المؤسسة في حد ذاتها، ولكن بقاء المؤسسة فاعلة وناجحة وليس عبئا على الدولة وإلا لا قيمة لها ولا مبرر لضخ الأموال لإنقاذها إن كان الأمر سيساعد على استمرار الفساد والفاسدين.