عروبة الإخباري – طلال السكر –
قرأتُ مقال الدكتورة العلامة، فلك مصطفى الرافعي، فوجدتُه جرسًا عتيقًا يُقرع في صميم الواقع العربي، يوقظ من به خدرٌ ويحرّض من به رمق على مراجعة الذات. هو ليس مجرد مقال؛ بل صرخة غيورة، مشبعة بالألم النبيل، على أمةٍ اختارت أن تعيش في هامش التقليد الأعمى، وقد كانت يومًا من صُنّاع الأسمى والأعلى.
صدقتِ يا دكتورة حينما أشرتِ إلى أن العقل العربي، الذي أهدى العالم خوارزميًّا وابن سينا وهيثمًا ورازيًّا، بات اليوم عاجزًا عن صناعة شاحن هاتف أو حتى برنامج تلفزيوني يحمل بصمته الحضارية الخاصة. وكأنما كتب علينا أن نبدّل نعمة الإبداع بلعنة الاستهلاك، وأن نتحول من روّاد إلى مقلدين، ومن مبتكرين إلى مبهورين بما يطرحه الآخر.
غير أن الطامة الكبرى ليست في التقليد فحسب، بل في الارتهان النفسي لهذا التقليد، حين نفقد إرادة النقد ونستبدلها بإرادة الانبهار، ونلوذ إلى الغرب لا طلبًا للعلم والمعرفة، بل لتلقي ما يفيضون به من منتجات الثقافة والترفيه، حتى أصبحنا أسرى “النسخة المستوردة”، نرتديها ونلوكها ونفاخر بها وكأنها إنجازنا.
لقد وضعتِ يدكِ، يا دكتورة، على الجرح حين فرّقتِ بين “التقليد الأعمى” الذي يطمس الشخصية ويقمع الهوية، و”التقليد الأسمى” الذي يعني أن نستلهم التجربة، لا أن نغرق في محاكاتها حدّ الذوبان. فالتقليد الذي نحتاجه اليوم هو ذلك الذي يُوقظ الهمم ويشحذ العقول، أن نقتفي أثر الحاكم الذي يطوف ليلاً يواسي الجياع، لا أن نقتني البرامج الساقطة من أقاصي الأرض لنُسقط ما تبقّى من وعينا الجمعي.
مقالكِ دعوة نادرة في هذا الزحام الصاخب، لتذكيرنا أن التقدّم لا يُستورد، وأن الهوية ليست سلعة تُعرض على واجهات المتاجر، بل هي منظومة فكرية متجددة، قوامها العقل المنتج، لا المقلّد؛ الباحث، لا المستهلك؛ الناقد، لا المنبهر.
ولعلنا نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن نفرّق بين “الحداثة” التي تعني الاجتهاد المستمر، وبين “الموضة الفكرية” التي تعني استيراد كل ما يُعرض علينا دون فلترة أو تمحيص. فبين تقليد الحاكم الذي يرعى شعبه وتلميذ الحضارة الذي ينهل من معينها ليضيف إليه، وبين من يتوسل الغربي أن يعلّمه كيف يلبس ويأكل ويفكر ويبتسم، فرقٌ شاسع هو ما يحتاج عقلنا العربي اليوم أن يعيه ويستعيده.
ختامًا، أحيّي قلمكِ الذي لم يستسلم، ويظلّ يقاوم تيار الذوبان في ثقافة الآخر، منبّهًا بأننا نملك إرثًا حضاريًا وثقافيًا يجعلنا، إن شئنا، قادة لا مقلّدين.