عروبة الإخباري – الدكتورة العلامة فلك مصطفى الرافعي –
العلاقة بين النور و النار تبدو ملتبسة بالاختلاف ، غير أنهما على مزاوجة و شراكة في أمور عديدة ،حتى التشابه يطال الأسماء من ثلاثية الأحرف لكل منهما, و مفارقة في حرف ضمن عائلة احرف العلّة …كلاهما له الوهج و الإضاءة و الدفء، و كلاهما يشبهان الحقيقة بالوضوح و الرؤية .
فللنور عيون و للنار ألسن ، إن قاربها اللهب فبركان من حطب ,و نحن مدينون بالعرفان لذلك الإنسان البدائى الاول الذي إكتشف بالصدفة ” المقدّرة سلفا ” و بالحاجة لهذا الاختراع .. فلعلّ في احتكاك حجرين شهقت النار بالبصيص كأنها العذراء تلد الحياة ، و ربّما في إلحاح شعاع حاذق من شمس جريئة على ملاصقة بعض عيدان القش ، فإلتهب اللقاء بالإحتراق و منه ” القبس و الهدى”
و كما هي كثيرة الامثال التي تجري على ألسنتنا و لا نفقه معانيها لأننا ورثناها ىالإنتقال بين الأجيال ” فالدومري ” من الشخصيات التي تبدو خرافية بالنسبة لهذا الزمان إسماً و فعلا ، و كثيرا ما نسمع من يقول ” نزلت الشارع فوجدته خاليا حتى من ” الدومري “…
و في هذه المقاربة استعيد ما سمعت عنه و عن مكانته و قيمته في عالم الأضواء .. فهو في بدايات المدينة قبل الدخول الى عالم ” اديسون ” و ثورة الكهرباء ، هو الرجل الذي يحتل المكان و الساحات عندما تبدأ عودة الرجال إلى بيوتهم عقب إستراحة النور عند المغيب ، و هو الرجل الذي يسيطر على المكان و يخضعه لسلطانه عند هزيمة الظلمة و إقتراب تنفّس الصباح ، و الصباح يتنفس بالضوء،..
يستعد ” الدومري ” و يشمّر عن ساعديه ، يحمل أدواته و يقترب من القناديل المعلّقة عاليا في الزوايا و الحارات و أشباه الشوارع ..تلك القناديل السَكْرى بالزيت المعدّ للاشتعال البطئ المحترق بفتيل يمتد من جوفه إلى رأسه مُشبعا ثملا ، فيأتي إشعال ” الدومري ” لطرف الفتيل أو رأس اللسان ، فيولد الوهج المنتظَر ، و يُصاب الليل بشموس صغيرة مستعارة تلجم الوحشة و تؤنس الفراغ و تمنع معظم الاعتداءات ، فلا ينكبً المرء على وجهه متعثرا إن طلب حاجة في الدامس من الليل ، ” فالدومري ” أنار حقيقة الطريق منعا ” للدعسات الناقصة “أو التعثّر في المشي المشابه للتلعثّم في الكلام …عندما تبدأ جحافل الظلمة بتوضيب حقيبة الهروب من عسكر الصباح الذي يدق النوافذ العالية و يفرد بساطه على الدنيا ، يظهر ” الدومري ” مجددا بعد الفراغ من صلاة الفجر ليطفئ النور الذهبي الرضيع .. فالشمس قنديل السماء الكبيرة تحيله إلى النوم ، فهو العصيّ على منع التجوّل في قرار طوارئ الليل ،و هو المعروف و صاحب الشهرة المطبقة بطلّته و لباسه و دوره و كأنه الأذُن للناس غروبا للسكن في الدار ، و هو الأذُن للناس شروقا لمزاولة العمل …
و كأنه غاية الفيلسوف اليوناني القديم ” ديوجين ” الذي كان يمشي نهارا و قنديله مشرّع الاضواء ، و إذا سُئل أما تكفيه الشمس لاستطلاع ما خَفي عنه ، يجيب أن البحث عن الحقيقة يتطلب ضوءا استثنائيا ،و عندما يدلف مرة مع فانوسه المشتعل إلى كوخه ليستريح ،يأتيه الحاكم يسأله ليعطيه فيقول :” اريد فقط ان تبتعد عن شمسي و لا تحجبها عني ” ..
في عصر الكهرباء و البدائل عندنا المولدات الصغيرة و الكبيرة و القناديل القديمة و بدائلها الشموع تجتمع للبحث عن الحقيقة ، رغم انها مرّةٓ مُرّة كما في حقيقة الموت كتسليم آمن به كل البشر رغم مرارته ،و الحقيقة حلوة في جلاء غموض المنكر و السلب و القتل …
النور هو الشعاع لتسهل قراءة الحقيقة و احيانا النار تأتي عليها ،و هنا الخلاف الكبير بينهما رغم التشابه في كثير من المفاصل و المفاعيل .
في جلجلتنا المرعبة ، في أيامنا التي تكثر فيها أعياد ” البربارة و الأقنعة الزائفة ” التي تستر الحقيقة ، ننتظر ” الدومري ” تحت أيّ لون من الأعلام يحمل ، شرط أن يحتضن الحق و الصدق ..
ما بين النور و النار إختلاف في حرف العلّة من الممكن أن تكون علّة تقضي للتهلكة أو علّة للوجود و السعادة ..
أيها ” الدومّري” قناديلنا جفّت و الظلام يسكننا فقد طالت إجازتك .