هذه العبارة رغم بساطتها، تحمل من العمق ما يكفي لهزّ المسلمات التي صنعناها بأنفسنا حول الزمن .؟
الساعة، تلك الآلة التي اخترعناها لنقيس بها ما لا يُقاس، ليست أكثر من انعكاس هشّ لفكرة قررنا جميعاً أن نتواطأ على تصديقها ، تعطل الساعة لا يوقف سريان الزمن، بل يفضح هشاشتنا أمامه؛ يذكرنا أننا لا نملك منه شيئاً ، وأن كل ما نحمله في جيوبنا من دقائق وساعات ليس سوى رموز تافهة أمام زخم الوجود المتدفق.
منذ أن قرر الإنسان أن يقطع الليل والنهار إلى وحدات، بدأ يفقد شعوره الطبيعي بالزمن. تحولت اللحظة من شعور حيّ إلى خانة رقمية على قرص دائري أو شاشة مضيئة. أصبحنا نعيش بالأرقام لا بالإحساس، نركض خلف الوقت بينما هو يعبرنا بهدوء، غير معني بما نفعله، غير آبه بجداولنا، لا يتباطأ من أجل عاشق، ولا يسرع لأجل مريض يحتضر. الزمن لا يأبه بالساعة، بل نحن من نعيش وهم السيطرة حين نظن أننا نملكه بمجرد أن نعلّقه في المعصم أو نعلّقه على الجدار.
إن تعطل الساعة ابعد من الخلل الميكانيكي بل هو كشف رمزي لانقطاعنا عن الحقيقة. كم من الناس ينهارون حين تتوقف ساعتهم فجأة، كأن الزمن نفسه توقف عن الحضور..!
لكن الحقيقة أن الزمن لا ينتظر دقّات عقاربهم. فهو يمرّ من خلال شقوق جدران العمر، من خلال تجاعيد الوجوه، من خلال خفقات القلب التي تخوننا فجأة دون موعد. الزمن ليس ما يقوله لك منبه الهاتف بل ما يفعله بك وأنت لا تنتبه.
المفارقة أن الإنسان، في محاولته لقياس الزمن، وقع أسيراً له. أصبح عبده لا سيده. نرتّب أعمارنا بحسب ساعات العمل، ساعات النوم، ساعات التسلية، لكننا ننسى أن أعظم اللحظات التي عشناها لم تكن جزءاً من أي جدول ، لحظة غير محسوبة خاطفة تعني الكثير ، دمعة تسقط بلا موعد، فكرة تضيء العقل في وقت لا يتوقعه أحد تلك اللحظات هي الزمن الحقيقي، الذي لا تلتقطه عقارب ولا تقيّده مؤقتات.
وحين تُعطَّل الساعة، قد يكون هذا أكثر الأوقات صدقاً مع الذات. فها أنت تنظر حولك دون أن تعرف كم مضى من الوقت، وتبدأ بإدراك أن الحياة لا تُقاس بالدقائق بل بالتجارب. أنت لا تكبر كلما تقدمت الساعة، بل كلما عشت شيئاً جديداً ، كلما جربت ، كلما جرحت، كلما تعلمت كيف تمضي دون أن تعد خطواتك.
الوقت لا يُحتجز في ساعة، كما لا تُحتجز الأرواح في قنينة. إنه كيان يتجاوز فهمنا، يتحدى رغبتنا في التنظيم، ويُخضعنا رغماً عنا لحكمه الصامت. نحن لا ندرك أننا نعيش لحظةً حتى نفقدها. وحين نخسر ساعةً ثمينة من أعمارنا، نظن أن الزمن خاننا، بينما نحن من خنّاه بالانشغال عنه بعدّ أرقامه لا باحتضان معانيه.
فكر بالأمر جيداً يا صديقي : ماذا لو توقفت جميع الساعات في العالم الآن؟ هل سيتوقف العمر؟ هل ستتوقف الحياة؟ هل ستتوقف الشمس عن الشروق؟ بالتأكيد لا. لأن ما نعيشه أعظم من محاولاتنا لتأطيره. وربما نحتاج لتعطل الساعات أحياناً كي نتذكر أن الزمن لا يُعاش من الخارج، بل يُحسّ من الداخل.
الزمن لا يموت بتوقف الساعة بل ربما يولد من جديد في أعماقنا حين نصمت ونصغي إلى نبض الوجود بعيداً عن صوت العقارب.
الوقت لا يتوقف عندما تتعطل الساعة* د. محمد العرب
3
المقالة السابقة