عروبة الإخباري – بقلم غيثة لبلول –
ويعود صاحب “مرايا” ليدخلنا في ”متاهات” ، متاهات تتارجح بين المخيلة الإبداعية والعقلانية الباحثة ،العقلانية النقدية .
“قلعة المتاهات ” مجموعة قصصية جديدة تطل علينا بغزارة إبداع ذي خصوصية متميزة . سعيد رضواني في سرد جديد ،يحمل رؤى نقدية لواقع إنساني متارجح ومتأجج ،واقع غير تابث على موقف ،ولا على صورة ،ليكشف لنا الأوجه المتعددة ،المختلفة لشخوص تتداخل مع بعضها. يبدو هذا التداخل في الجمع بين ضمير المتكلم “الكاتب” ” السارد” والبطل الحاظر الغائب ،حاظر في مخيلة الراوي،غائب في الواقع الفعلي بسبب الوضع الشاد الذي يخلقه له ، لينتهي به الأمر إلى التمازج والتلاحم مع الكاتب، وفي هذا التمازج تحدي لواقع مفترض يتفاعل مع مخيلة الكاتب
تحدي عبر عنه الكاتب في إحدى قصص المجموعة :
“التحدي” ،حيث يعلن عن مواجهة بين طرفين متناقضين ،مواجهة تبدا في الواقع بين مرحلتين : مرحلة الطفولة كماضي يسود فيه ا”لتهور والاندفاع والجموح”،ومرحلة النضج حيث تتراكم التجارب ويتم التطلع الى الافضل . يؤكدالكاتب على مفهوم التناقض والتقابل كاساس للاستمرارية وكضرورة للتفاعل في واقع تحدد خصوصيته مخيلة إبداعية ،ويحسم في نهاية المتناقضات المعاشة ،فيطرحها في عملية مواجهة مفتعلة بين عنصري التناقض : المخيلة والواقع ليجسدهما في القلم والمسدس ،الحبر والرصاص ، الحياة والموت ، يترصد أحدهما الآخر ،ليصل الى نهاية هي نهاية “التحدي ” :. “كان سلاحه في القتل مسدسه ،وكان سلاحي في الحياة القلم ،وفي اللحظة التي اخرج فيها مسدسه ،اخرجت فيها أنا قلمي ،واطلق كلانا الحبر والرصاص “(التحدي ص 83 ).
هكذا يدخلنا سعيد رضواني في متاهاته، و باسلوبه المتميز الغني بالصور البلاغية ،والدلالات الرمزية ،يشركنا في عالمه التاملي لنطيل النظر بهدف إستجلاء البعد الفلسفي لسرده فينقلنا بين دروب فكره وأزقة واقعه ،وقد ننغمس معه في مسلك تجاربه ،و نغوص معه في مخيلته التي تجمع بين المتناقضات ،فنسقط في إزدواجية الواقع المعاش والمفكر (بفتح الكاف) ،وندخل في لحظة تماهي مع أفكاره وواقعه ،ليختلط علينا الامر احيانا : هل هو وصف لواقع ، ام مجرد ترحال في تخيل عميق ينقلنا بين دروب الواقع وتجليات المخيلة الإبداعية. ؟
في ” لحظات ومشاهد” يكشف عن لحظات مختلفة من خلال مشاهد غير مألوفة ،مما يدل على غزارة الإبداع ،ابداع الكلمة ،ابداع الحركة ،ابداع الموقف :. كل لحظة هي موقف يعارض موقف ،موقف تنبعث فيه الذات من بواطنها لتنط الى واقع خارجي ،فيتداخل الاثنان في عالم مركب متداخل .
مع”عجلة الزمن” يجد القارئ نفسه أمام سيرة ذاتية ،ويحس بصدق الراوي وهو يصف واقعا معاشا من خلال صور واحداث فعلية محددة في زمان ومكان ، لكن سرعان ماتتدخل المخيلة وتجهز على الواقع بتراكيب مجردة متعالية تؤثث لعلاقة صدامية بينهما ( الواقع والمخيلة ) تنتهي بانتصار المخيلة ،مما يفسر هذه القوة الإبداعية التي تمكنه من السيطرة على الواقع والتحكم في الحدث في” قلعة المتاهات” كل قصة تعكس إزدواجية خاصة مفتعلة بين الواقع والمخيلة ،ولا اقول خيال ،لان الخيال قد يحيل الى الوهم ،لكن المخيلة هي نسخ من واقع ،هي تجريد لأحداث ووقائع لها تأثير خاص على ذهنية صاحبها ، مما يضفي على الحكي جمالية تعكس خصوبة التعبير وغزارة الرمز .
في قلعة المتاهات ،تنتهي القصة ،لكن يستمر التامل ،ينتهي السرد لكن تستمر منعرجات المتاهة . النهاية هنا استنتاج ،بل تاكيد استمرارية المتاهة ،متاهة الكتابة ،متاهة التامل ،متاهة التفكير ،ليتضح لنا أن الكتابة الأدبية تنهل من التأمل الفلسفي ،وهذا ما يتبث حقيقة أن ” الكتابة الإبداعية الروائية رحلة في متاهات الفكر والتاريخ الاجتماعي ، وتتوغل الى أعماق مهارات الذات ومنعطفات الروح المفكرة ”.