عروبة الإخباري – بقلم فاطمة عدلي –
منذ الوهلة الأولى يأخذنا العنوان إلى لغز كبير مر عليه أكثر من قرن من الزمن،عندما اختفى قطار زنيتي في نفق جبل لومباردي، في حادث أغرب من الخيال..قطار زنيتي،هذا القطار الفاخر الذي روجت له إحدى الشركات الإيطالية، في حملات دعائية لجلب الأثرياء للتمتع برحلة استثنائية من روما إلى ميلانو..
لكن هذا القطار اختفى بركابه بمجرد دخوله نفق لومباردي، وبقي سرا ملغزا لا أحد يعرف مصيره إلى يومنا هذا..
يستحضر الكاتب حادث قطار لومباردي مطعما بها أحداث قصته التي جعلها تحمل نفس العنوان، إذ ينفتح الحكي على رحلة عبر القطار، حيث تتوالى الأحداث في البداية وفق تسلسل منطقي، من خلال تتبع حركة المسافرين وأخذهم أماكنهم داخل القطار ” تستقر الأجساد على المقاعد مخلفة بعض الكراسي الفارغة..” أو يتم استباق الحدث بتوقع ما سيحصل عند الوصول.. “بينما ذهني يحاول الانشغال بربوة أترقب لحظة الوصول إليها..ربوة تحضنني وصديقي في جلسة ممتعة تصيخ أذناي فيها السمع لما سيحكيه لي عن تفاصيل سفره..”
ومن رحلة السارد على قطار السادسة، تتناسل رحلات أخرى على الورق، فتنبثق رحلة امرأة “تستقل قطار الخامسة” وتمضي عبر الكثير من الأنفاق..
يتداخل المعيش بالمتخيل لدى السارد، ويأخذ القطاران شكل قطار واحد مدمج “وكأنه يسير على سكة أحد قضبانها من حديد والآخر من سطور على الورق..”
وتنتقل عدوى التناسل من السارد إلى امرأة قطار الخامسة التي يهتز من قطارها المدبج على الورق، قطار آخر بتوقيت الرابعة يقل شيخا ينزوي بإحدى عربات القطار إلى أن يدخل أحد الأنفاق فيصاب بالرعب إذ يرتبك ذهنه فيجد نفسه كما لو كان على متن قطار لومباردي الذي اختفى قبل أكثر من قرن..
وتنتهي القصة برحلة العودة إلى الواقع بمغادرة الشيخ لقطار الرابعة، وإكمال طريقه في القطار الذي يقل امرأة قطار الخامسة التي ليست في الواقع إلا نتاج خيال السارد الذي يستقل قطار السادسة،الذي يصل إلى سفح الربوة حيث ينتظره صديقه، فيقرر فجأة العودة في نفس القطار إلى بيته و”يخرج هاتفه ويتصل بصديقه ليؤجل اللقاء، ويظل في مكانه منتظرا انطلاق القطار في الاتجاه المعاكس..”
هكذا يتراجع سير الحكي ليعلن علينا العودة إلى نقطة الانطلاق حيث ترتد الأحداث إلى نقطة البدء،ويتم تكسير التوقعات بعودة المسافر من حيث أتى،دون أن يتم اللقاء المرتقب مع صديقه،في الوقت الذي قدينتظر القارئ تطور الأحداث بعد اللقاء المنتظر..
يبني الكاتب قصته وفق اعتماد الخيال السردي العجائبي،عبر الانتقال من حالة واقعية إلى حالة أخرى تنزاح عن الواقع باختلاق حالة غرائبية، والانتقال من رحلة واقعية على متن قطار السادسة، إلى رحلة متخيلة عبر قطار الخامسة التي تنبثق عنها رحلة قطار الرابعة..
يجعل الكاتب من شخوصه شخوصا خيالية دون أسماء. لا نكاد نعرف شيئا عنها.لتبقى نموذجا للشخوص الحاضرة في كل زمان ومكان،فالمرأة لا نعرف عنها إلا معطفها الرمادي، و ارتباطها بقطار الخامسة، ولا نكاد نعرف شيئا عن الشيخ إلا أنه يقله قطار الرابعة..
السارد وحده نعرفه من خلال تنقلاته التي تظل مرتبطة بالواقع ،ومن خلال تموقعه كشخصية رئيسية ينصب عليها الاهتمام بوصف تفاصيلها الدقيقة ” بينما جسدي الذابل، منزو بقميصه الأبيض وذقنه الحليق في هدوء، ضاما محفظتي المزركشة إلى صدري..”
يظل الكاتب وفيا لتقنية التناظر السردي التي ميزت كتابته في روايته “أبراج من ورق”، حيت التناظر بين الورق والإسمنت. إذ يلجأ إلى التناظر بين تفاصيل الحياة وبين الحروف، معلنا عن سفر عبر القطار وعبر الإبداع..
ولعل السارد نفسه يشير إلى هذا التناظر بين فواصل الحياة وفواصل الترقيم..
يقول على لسان السارد:
نقط وفواصل في حياتي، مرت في سكة ذهني مرور القطار على سكة الحديد..
أقارن كل تفصيل في الحياة، بتطريز لغوي يعكسه على ورقة ما..
بل جعل الفقرات تقابل المحطات، وجعل الانتقال بين المحطات كالانتقال بين الفقرات..
ويظل معجم الكتابة حاضرا في القصة كهاجس يلازم الكاتب..
” قصة تنتظرني بشوق فوق مكتبي الخشبي، لأطعمها بتفاصيل الحكاية التي سيرويها لي صديقي، وأغذي بها حبكة القصة”
وأنا أنهى القصة تساءلت ما الذي جعل الكاتب يستحضر قطار زنيتي الذي مر على اختفائه ردح طويل من الزمن وظل مصيره غامضا وما المشترك الذي جعله يستحضره في رحلته،هل هو الغموض الذي يلف رحلة الحياة، أية حياه، أم هو المصير المجهول لكل مغامرة تروم الاستكشاف..
أو لعل الكاتب قد استهوته لعبة التناظر، فدخل غمار التجريب باستحضار قطار زنيتي ونفق لومباردي..
يقول على لسان السارد:
“بينما ذهني مشغول بلعبة التناظر، أفكر في النفق فيستحضر ذهني حروف الكلمة التي تشكله، ومعها يستحضر قطار زنيتي الذي دخل نفقا من أنفاق إيطاليا ولم يغادره قط..”
“أتأمل الحكاية وأتذكرها كلمة كلمة..تدعوني الكلمات إلى ممارسة شكل آخر من التناظر، فأنهمك على ورقة أمارسه بالقلم..”